
عوض ضيف الله الملاحمة
أُقسم بالله العلي العظيم أنني لا أكتب عن الأردنيين بتعصبٍ ، او تزمت ، أبداً والله . وما أكتب الا عن عن أفعالهم ، وطيبتهم ، وكرمهم ، وتسامحهم ، وتجاوزهم مصائبهم ، وإرتقائهم على الجراح والمصائب والكوارث التي يُبتلون بها . هذا التسامي هو ينطق عن نفسه ، ليوصف بعض حالات الكرم والتسامح والطيبة التي لا تخلو فترة زمنية الا ويسطر بعض الأردنيين أفعالاً شهمه يسجلها التاريخ .
هاكم مثلاً قصة الأردني الكركي الشهم من قبيلة الحباشنة ، التي سِجِلُ رجالاتها حافل في العطاء والتضحية للوطن وللعروبة . الذين يُقدِمون على افعالهم الطيبة بكل كفاءة ، ورجولة ، وشجاعة ، وبسالة ، وإقتدار .
يوم أمس ، فُجِع الشيخ / غازي عبدالكريم العساسفة الحباشنة ، من الكرك ، بفقد فلذة كبده العشريني / عودة الله ، الذي توفاه الله ، بسبب حادث سير وقع بالخطأ من قبل فتاة كركية من قبيلة المعايطة الكريمة .
وما أن وصل خبر الفاجعة الى الشيخ الكريم النبيل الأصيل / غازي الحباشنة ، وقبل ان يكفكف دمعته ، ويلملم حزنه ، ويستوعب مُصابه ، سأل عن الفتاة التي إرتكبت الحادث ، فقيل له انها محتجزة لدى الشرطة . وبإقدام الكرام ، ذهب مسرعاً الى مركز الشرطة ، وطلب الإفراج عنها فوراً ، وتم الإفراج عنها وذهبت الى بيتها . وعندما سُئل الشيخ / غازي الحباشنة عن موقفه الرجولي الأصيل ، قال :— [[ ويش أقول ، جبري على الله ، الله أعطاني ، والله أخذ مني ، هاذي بنتي ، وهذا إبني الله يرحمه ، أنا ما بخلّي بنت كركية تنام في السجن ، هاذي عورة ، ولو دعست إبني ، هاذي بنتي ، وهذا إبني ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ]].
أي رجُلٍ أنت يا شيخ / غازي !؟ أي أبٍ أنت !؟ تتجاوز مصيبتك بفلذة كبدك !؟ تقفز فوق جرحك وتسامح قبل ان يجف دمُ إبنك !؟ لم تفكر ، ولم تحسب ، ولم تتردد ، ولم تتشاور . أي شهامة هذه !؟ أي حرصٍ تملكه على أعراض الكركيات !؟ أي مبدأ تحمله !؟ اي رقي فكري تمتلكه عن عِزة المرأة !؟ ما هذه القناعات الفكرية الجينية العروبية الإسلامية التي تحملها عن المرأة وصون كرامتها في أصعب الظروف وأحلك المواقف !؟ بالله عليك أين نشأت ؟ وأين تربيت ؟ وما هو نهج والديك ؟ اين تتلمذت ؟ وأين درست ؟ بالتأكيد من لون بشرتك ، ولهجتك الكركية الأصيلة ، أنك لم تتخرج من هارفرد ، ولا السوربون ولا من اكسفورد .
يا شيخ / غازي عبدالكريم العساسفة الحباشنة : أنت شيخ المواقف الرجولية النبيلة . أنت شيخ التسامح . أنت شيخ الإيثار . انت شيخ النبل والكرامة . أنت العربي الأصيل النبيل .
ما حصل يوم أمس في الكرك ، ليس غريباً ، وليس حدثاً فريداً ، أبداً ، ففي السبعينيات من القرن الماضي ، سبق للشيخ المبجل المرحوم / دليوان المجالية ، رئيس بلدية الكرك آنذاك ، ان سامح أحد السائقين الذي دهس إبنه وتسبب في وفاته على الفور . وعند البدء بمراسم الدفن ، سأل الشيخ دليوان مدير شرطة الكرك عن السائق الذي تسبب بالوفاة ، فأخبره انه في السجن . فأمر الشيخ دليوان ، بإخراجه من السجن فوراً ، وأقسم ان لا يُدخل ابنه القبر الا السائق نفسه ، وكان له ذلك . وسامح السائق ، وأكرمه ، وأجزل له العطاء .
يعجز القلم عن سرد مكارم الأردنيين ، ونخوتهم ، وشهامتهم ، وكرمهم ، فهذه الصفات والقيم النبيلة الأصيلة متجذرة في الشعب الأردني جينياً .
واليكم قصة رجل أردني من عروس الشمال إربد الحبيبة ، يمتلك دكاناً ، قام بإحراق دفاتر ديونه التي على الناس ، أحرقها أمام العامة وفي الشارع العام ، مسامحاً زبائنه بمبلغ يصل الى ( ٣٠,٠٠٠ ) دينار أردني ، لوجه الله تعالى ، وحاثاً الميسورين من الأردنيين على الإقتداء به مراعاة للظروف المالية الصعبة التي يمر بها الشعب الأردني .
وقصة الكرم أعلاه ، ذكرتني بجدي لأبي رحمة الله عليه الحاج / محمد سالم ملحم الملاحمة الطراونة ، الذي كان يلقبه الناس بلقبين (( أبو الذهب / وأبو الخير )) . حيث كان من كبار ملاكي الأراضي وقطعان ( شلايا ) الأغنام في النصف الأول من القرن الماضي . حيث كان يملأ ( خُرج ) الفرس بالذهب العصملي مرتين ، مرة عندما يبيع الخراف في بداية فصل الربيع ، ومرة عندما يبيع محاصيل الحبوب في فصل الصيف ، ويجوب محافظة الكرك كلها على فرسه باحثاً عمن عليهم ديون ولا يقدرون على سدادها ليسددها عنهم لوجه الله تعالى .
وفي قصة أخرى عن جدي الحاج / محمد رحمة الله عليه ، أنه عندما مرض ، وتأكد انه لن يشفى من مرضه ، وكان يسكن في بيت من الشَعر ، على ( ٦ ) وسَّطْ ، وللذين لا يعرفون ، ان المسافة بين الواسط والواسط تتراوح بين ( ٣-٤ ) أمتار ، وهذا يعني ان الطول الكلي لبيت الشَعر قد يصل الى ( ٢٤ ) متراً . فأمر زوجاته ان يشعلن ناراً كبيرة من الحطب ، ويغادر الجميع البيت الى بيوت الأقارب المجاورة . وطلب ان يُحضروا له الشاب المتعلم آنذاك المرحوم الحاج / عبدالرحمن سلامة ملحم الملاحمة ، لأن جديّ كان أُمياً ، وعندما حضر ، طلب منه إحضار صندوق الحديد خاصته ، وقال جدي للحاج / عبدالرحمن : تعمل ما أطلب منك ، وتعاهدني ان يبقى سراً بيني وبينك ، فوعده ، وحفظ وعده . فطلب جدي منه ان يُخرج ورقة ، ورقة من الأوراق التي تثبت ديونه على الناس ، ويقرأ الورقة ، ويذكر اسم المدين ، والمبلغ المطلوب منه ، فيطلب منه ان يضع الورقة في النار ليحرقها ، ويقول جدي : مسامح دنيا وآخره . وفي السبعينيات من القرن الماضي سألت عمي المرحوم الحاج / عبدالرحمن عن تقديره للمبلغ الإجمالي — لأنه يأبى ان يذكر أسماء المدينين — فقال لي والله يا إبني لا أعرف ، لكنني أقدره بعشرات الوف الليرات الذهبية ، في ذلك الزمان ، في نهاية النصف الأول من القرن الماضي .
هؤلاء هم الأردنيون ، وهذا هو ديدنهم . بل هذه هي جيناتهم العربية الأصيلة . الأردنيون عرب أقحاح . الأردنيون ما زالوا يتمسكون بخصالهم العربية النبيلة من كرم ، وتسامح ، وإيثار . الأردنيون من كرمهم وإكرامهم وتقديرهم لقدر الآخرين وعلى فنجان قهوة عربية ، وبحضور الغانمين من شيوخ ووجهاء يرتقون على آلامهم وجراحهم ومصائبهم ويسامحون بالقتل وإهراق الدم وهم شامخون مرفوعي الرؤوس .
رغم عِظم المأساة ، وقساوة فقد فلذة الكبد ، ها نحن نرى الشيخ الكريم العروبي الأصيل / غازي عبدالكريم العساسفة الحباشنة ينتخي لصبية كركية — دون ان يطلب منه أحد ( يعني نخط من رأسه ) — ، ويأبى ان يُبقيها في السجن ، ويعتبرها كأنها إبنته . هل هناك شهامة أكثر من هذا الموقف !؟ الأردنيون يتباهون ويفتخرون بتسامحهم . أفتخر بأردنيتي وعروبتي .