أقلام و آراء

البراغماتية: جدلية الهوية وأوهام النخبة

الشاعر أحمد طناش شطناوي
رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/إربد

نشهد اليوم وخلال المشهد الراهن أزمة متفاقمة في الانتماء الوطني، حيث تراجعت الهوية الجامعة لصالح انتماءات ضيقة تحركها المصالح الشخصية، في ظل سيطرة براغماتيةٍ غير مسؤولة جعلت النخب – التي يُفترض أن تكون ركيزة الفكر والتوجيه- تنغلق على ذاتها وتنحرف عن دورها الطبيعي في قيادة المجتمع، وبينما كان يُفترض أن تكون النخب بوصلة الوعي الوطني، أصبحت في كثير من الأحيان عبئًا عليه، تمارس خطابًا مزدوجًا، تُظهر فيه التزامًا بالمصلحة العامة حين تخدمها الظروف، لكنها سرعان ما تعود إلى أولوياتها الخاصة عند أي تعارض مع مصالحها.

لم تعد البراغماتية اليوم أداةً للتكيف مع متغيرات الواقع بما يحقق المصلحة الوطنية، بل تحولت إلى مبرر لانفصال النخب عن قضايا المجتمع، حيث باتت المصالح الشخصية تُغلَّف بمفاهيم الحداثة والتطوير، بينما في جوهرها لا تعدو كونها انعزالًا عن الواجب الوطني، فبدلًا من أن تعمل النخب على حماية الهوية الوطنية وتعزيزها، أصبحت أداة لتفكيكها، عبر تحويلها إلى مجرد ورقة ضغط تُستخدم عند الحاجة، ويتم تجاهلها حين تصبح عائقًا أمام طموحات فردية أو فئوية.

إن مفهوم الهوية الوطنية يقوم على الوعي الجمعي المشترك الذي يُشكل الإطار العام لانتماء الأفراد للدولة والمجتمع، لكن حين تتبنى النخب عقلية براغماتية منفصلة عن هذا الإطار، يتحول الانتماء الوطني إلى مجرد شعار سياسي يُستدعى في أوقات الأزمات، لكنه لا يجد انعكاسًا حقيقيًا في السلوك والممارسة، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية، حين تصبح الهوية موضوعًا للتفاوض، وحين تتحول النخب إلى طبقات مغلقة ترى في الوطن مجالًا لتحقيق الامتيازات بدلًا من كونه مشروعًا مستدامًا للبناء.

ما يزيد الطين بلة، هو أن هذه البراغماتية غير المسؤولة لم تقتصر على المجال السياسي فقط، بل امتدت إلى مختلف جوانب الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، حيث بات كل شيء خاضعًا لحسابات آنية قصيرة المدى، فالمثقف الذي يُفترض به أن يكون ضمير الأمة، أصبح في كثير من الأحيان تابعًا لقوى المصالح، يُكيّف خطابه وفق متطلبات اللحظة، والسياسي الذي يُفترض به أن يكون مسؤولًا عن رسم ملامح المستقبل، بات أسيرًا لاعتبارات آنية، تركز على المكاسب السريعة بدلًا من الرؤى الاستراتيجية، والاقتصادي الذي ينبغي أن يسعى لتنمية مستدامة، أصبح يدير ثروات البلاد وفق منطق الربح الخاص بدلًا من الاستثمار في مستقبل الأجيال القادمة.

إن أخطر ما في هذه المعادلة، هو أن الهوية الوطنية لم تعد عاملًا موحدًا، بل تحولت إلى ساحة صراع بين تيارات متناقضة، بعضها يرى فيها إرثًا يجب المحافظة عليه دون تغيير، وبعضها الآخر يعتبرها عائقًا أمام التحديث والانفتاح، وبين هذين الطرفين، تضيع الحاجة الحقيقية إلى صياغة مفهوم وطني جامع، قادر على مواكبة العصر دون أن يفقد جذوره، وهنا يكون دور النخب حاسمًا، لكن حين تفقد هذه النخب قدرتها على رؤية الصورة الكاملة، وتغرق في حساباتها الخاصة، فإنها تصبح عامل تفكيك بدلًا من أن تكون رافعة للهوية الوطنية.

فلم تكن البراغماتية في جوهرها نقيضًا للوطنية في يوم من الأيام، لكنها تتحول إلى خطر حقيقي عندما تصبح وسيلة لتبرير التخلي عن المبادئ، فالسياسات الذكية لا تقوم على الانتهازية، بل على القدرة على تحقيق التوازن بين المصلحة الوطنية والمصالح الخاصة، والنخب الحقيقية ليست تلك التي تنعزل في أبراجها الفكرية، بل التي تعيش بين الناس وتعمل على ترجمة أفكارها إلى مشاريع تخدم المجتمع.

إن استعادة الهوية الوطنية ليست مجرد مسألة خطابية، بل هي مشروع وطني ثقافي مجتمعي طويل الأمد، يبدأ بإعادة تعريف دور النخب، بحيث تعود إلى موقعها الطبيعي كجسر بين الدولة والمجتمع، لا مجرد فئة تتنافس على الامتيازات.
فالهوية ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة، بل عقد اجتماعي يتطلب الالتزام والمسؤولية، والنخب ليست امتيازًا يُمنح، بل مسؤولية تُحمل، وحين تفقد هذه المعادلة توازنها، يصبح الوطن نفسه في مهب الريح، وتتحول الهوية إلى مجرد ذكرى تُستحضر في الأزمات، بدلًا من أن تكون واقعًا يُعاش يوميًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى