أقلام و آراء

فشل التهجير .. رغم التدمير

 

عوض ضيف الله الملاحمة

النفرة الفلسطينية للعودة من جنوب غزة الى وسطها وشمالها نفرة يسجلها التاريخ بشمم وإباء وكبرياء . كما تعتبر دليلاً واقعياً على تشبث أبناء غزة بالذات بأرضهم . فرغم الدمار ، والقتل ، والترحيل ، والتجويع ،ما زال الشعب الغزي تحديداً ، والشعب الفلسطيني عامة متشبث بأرضه ، يفضل الموت على مغادرة تراب وطنه . تعلّم الشعب الفلسطيني من هجرته عام ١٩٤٨ ، عندما إعتقد مخطئاً انها مغادرة مؤقتة ، وسيعود لأرضه ووطنه ، فخسر أرضه والعيش بوطنه ل ( ٧٧ ) عاماً ، الى ان يأتي يوم التحرير ، الذي ربما يكون بالوعد الإلهي فقط .

يا له من شعب عظيم . كيف لا ، والأمهات يستقبلن أبنائهن الشهداء بالزغاريد ، والفرح ، ابتهاجاً بحصول ابنائهن وفلذات اكبادهن على الشهادة ، ليرتقوا الى جنان الخلد ، ويكونون جيراناً للأنبياء والصديقين والشهداء أمثالهم .

الشعب الفلسطيني في الداخل شعب مناضل من طراز رفيع . لا يعرف اليأس ، ويقدم التضحيات ببسالة وجسارة وإقدام عزّ نظيرة . شعب يبتدع أساليب جديدة في النضال . ويناضل وفق الإمكانات المتاحة . شعب وصل لدرجة انه يصفي العملاء من أبنائه بنفسه .

سأذكر لكم ما حصل معي شخصياً ، قبل حوالي ربع قرن من الزمن . كنت ذاهباً الى الضفة الغربية في زيارة عمل ، ووصلت الجسر بعد الساعة الثامنة مساءاً . وكانت المواقف خالية تماماً من أية سيارة اجرة حتى استقلها الى رام الله . وفي حوالي الساعة التاسعة مساءاً واذ بباص صغير حديث يأتي . أخبرته انني اريد الوصول الى رام الله ، فرحب وابدى إستعداده . واستقليت الباص مع السائق الذي كان فلسطينياً من الضفة الغربية . وعندما تحرك الباص ، واذ بشخص يركض ويلوح بيديه ، فطلبت من السائق الوقوف لأتبين أمر ذلك الرجل . فإذا به معلماً في إحدى مدارس الزرقاء الحكومية ، وقد جاءه خبر وفاة والده المقيم في نابلس . فاعتذر السائق لأن الباص مستأجر مني شخصياً . فسمحت له بالركوب معنا ، واوصلناه الى بيت والده في نابلس ، وتكفلت بدفع فارق الأجرة عنه . وعندما تابعنا الى رام الله ، تبادلت أطراف الحديث مع السائق ، واخبرني عن إسمه الحقيقي . وعندما سألني من أين أنا ، ابلغته انني من الكرك ، فأخبرني انه سبق له ان اقام في الكرك لأكثر من سنة ، وتبين ان بيننا صديق مشترك كان اسمه الحركي / كاسترو . الى ان حدثني انه خرج من سجون العدو قبل شهور . فسألته عن سبب سجنه ، فقال : تم تكليفي من المنظمة الفدائية التي كنت مرتبطاً بها تنظيمياً بان افتعل مشكلة تستدعي دخولي السجن ، وتم تكليفي بصيد العصافير . قلت له ماذا ؟ هل هذا ( تخويث ) ؟ فقال : أقسم انه ليس كذلك . طلبت منه وقف الحديث والإستخفاف . عندها قال : أبداً والله ، وان صيد العصافير تعبير رمزي سري يقصد منه انه تم تكليفي لتصفية وقتل العملاء الفلسطينيين داخل السجن . حيث يتم إدخال بعض العملاء داخل السجن للتنصت على المعتقلين . إندهشت جداً ، وأكد لي ذلك ، عندها سألته كم قتلت من العملاء داخل السجن ؟ فأقسم انه قتل ( ١٣ ) عشر عميلاً داخل السجن . هل هناك أغرب من هذه القصة !؟

نفر أبناء غزة نفرة لم يشهد العالم مثلها . إنها نفرة إصرار على التشبث بالأرض . نفرة فرضت إحترام الشعب الفلسطيني على العالم وخاصة العالم الذي شهد تحولاً في مواقفة المؤيدة لعدالة القضية بعد ان كان معادٍ لها .

زحف عشرات الألوف ، بل مئات الألوف من أبناء غزة الذين هجّرهم العدو من الشمال والوسط الى الجنوب . هبّوا وانطلقوا بعزيمة واصرار ، شباباً ، وشيباً ، وأطفالاً ، ونساءاً . زحفوا مشياً على الأقدام ، بلا كلل ، ولا ملل ولا تعب ، رغم الجوع والعطش ، وغياب العناية الطبية ، ساروا راجلين على طُرقٍ محفرة حفراً عميقة وكبيرة بسبب الانفجارات الناتجة عن قصف العدو الذي إستهدف تدمير البنية التحتية في كل غزة حتى تصبح غزة غير قابلة للعيش فيها . انطلقوا من مدينة دير البلح عبر شارع الرشيد ، وشارع صلاح الدين اللذين يشقان القطاع طولاً من الجنوب الى الشمال . ساروا حوالي ( ٢٢ ) كم على الأقدام ، بعضهم حُفاة ، وبعضهم ما يستر جسمه لا يقيه برد الشتاء القارص . وفي أحد الفيديوهات رأيت عجوزاً عمرها ربما يقارب المئة عام ، ظهرها منحنٍ ، لدرجة ان نصفها الأعلى يشكل خطاً متوازياً مع الارض ، وجسمها نحيل كالهيكل العظمى ، لكنها تسير بعزيمة وهمّة وإصرار غريب .

ما أذهلني أيضاً ان بعض العائلات قد بدأت بإعادة إعمار بيوتها . حيث رأيت في الفيديو ان كافة افراد العائلة يدقون ويطحنون حطام بيتهم المدمر ، ويضيفون الاسمنت على الحطام ويعيدون بناء البيت .

كما أحسن الشعب الفلسطيني في الداخل في إختيار افضل أساليب النضال ، وفق الإمكانيات المتاحة ، وحرصاً على عدم كشف طرق نضالهم من العدو او من أمن السلطة . فلجأوا الى أسلوب النضال بواسطة الذئاب المنفردة مثل : عرين الأسود ، وكتائب جنين ، هذا عدا عن البطولات الفردية التي تتميز بإقدام عزّ نظيرة . حيث يكون المناضل صبوراً ، جلِداً ، شجاعاً ، لا يهاب الموت وهو مقدمٌ عليه .

لن تموت القضية ، وسيتم تحرير الارض ، وتحرر الإنسان الفلسطيني ، ما دام الشعب الفلسطيني في الداخل مؤمناً بعدالة قضيته ، وما دام مؤمناً ان التحرر والتحرير لن يتم تحقيقهما الا بايديهم هم وحدهم ، فما حكّ جِلدك مثل ظفرك . وإذا لم يتمكن الفلسطينيين في الداخل من انجاز ذلك ، فلديهم وعد رباني عظيم ، وحاشا ان يخلِف الله وعده .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى