الاحتلال كأسلوب حياة

 

د.أحمد رفيق عوض

رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية /جامعة القدس

مناسبة هذا الكلام هي النقاشات التي تشهدها محكمة العدل الدولية حول تبعات الاحتلال و اثاره و انعكاساته في كل المستويات و المجالات و كذلك موقف حكومة اسرائيل الحالية التي صوتت ضد قيام دولة فلسطينية ، و وصل الامر ببعض وزرائها للتهديد بالتخلص من اتفاق اوسلو و تفكيك السلطة الفلسطينية ، و كأن ذلك لا يحصل او لم يحصل بعد ، فضلا عن اجراءات و ممارسات حكومة الاحتلال في هذه الحرب الضروس ضد الشعب الفلسطيني .

ذلك ان اسرائيل باحزابها و نخبها و زعاماتها و ادبائها و علمائها اختاروا الاحتلال كأسلوب حياة محتمل ، اسلوب حياة مكلف لكنه يستطاع ، اسلوب حياة قاس و لكن يمكن تجميله او ترويجه او الدفاع عنه .

اختارت اسرائيل على مدى سنواتها ان تحتل شعبا اخر و ان تحتمل تبعات هذا الاحتلال حتى الان ، و تبعات هذا الاحتلال كثيرة و عديدة و ظاهرة و باطنة و بعضها سريع التأثير و بعضها الاخر بطيء التأثير ، فالاحتلال ليس مجرد حدث عادي في التاريخ ، انه استثناء منه ، و انكسار في طبيعته ، و خلل في سيرورته ، لهذا ، فأن كل احتلال يجر معه و وراءه و اثنائه ظواهر و تداعيات خطيرة و فادحة .

و اذا كان الاحتلال يؤذي من يقع عليهم الاحتلال ، فأنه يفعل ذات الشيء بمن يقوم بالاحتلال .

سلب الحرية من الاخرين يعني بالضرورة اكتساب الخوف و التوتر و العنف لمن يفعل ذلك . و التحكم في حياة الاخرين يعني تماما ان حياة المتحكم لن تكون عادية ولا طبيعية على الاطلاق .

فالاحتلال ليس مشروعا اقتصاديا و مربحا ، و ليس تحقيقا لرؤية او رؤيا او وهم او فكرة ، انه جحيم تماما ،  فهو يشوه القيم و السلوك ، وهو كالفيروس تماما يفتك بالنسيج الاجتماعي و من ثم يضعف مصادر القوة و المنعة للمجتمع القائم بالاحتلال ، الاحتلال ليس مربحا على الاطلاق ، و يؤدي الى طرق مسدودة و دروب شائكة ، و هو في نهاية الامر ككل الامراض لا بد ان يؤخذ الدواء للخلاص منه ، طوعا او كرها ، و هو ما رأيناه في كل فترات التاريخ و في كل الاحتلالات .

الاحتلال يعمل بأتجاهين لا بأتجاه واحد ، و الاحتلال مضر بالاتجاهين لا بأتجاه واحد ، و الاحتلال مرض يصيب الجميع بجراثيم الكراهية و التعصب و التطرف و الرفض و الانعزال و العنف و الانفجارات المتوقعة و غير المتوقعة ، ولان الاحتلال لا يتم الا بالقوة و الاكراه و الجبر مع ما يرافق ذلك من خسارات و الم و دموع ، فهو حدث يتحول بفعل الوقت و الالم الى معيار للسلوك و محدد للتوجهات و اطار للحركة و الفعل الفردي و الجماعي .

ان اسرائيل باصرارها على الاحتلال و مصادرة حق الشعب الفلسطيني بالحرية و تقرير المصير و اقامة الدولة انما تحكم على هذا الشعب و على شعبها ايضا بالدخول كرها او طوعا الى دائرة لا تنتهي على الاطلاق من الاوهام و الاضاليل و الادعاءات التي لا تنتهي ، دائرة فيها احكام مسبقة و نتائج مأمولة و تمركز مرضي حول الذات و احساس متورم بالاهمية الدينية و التاريخية ، ولان الاحتلال -كل احتلال- يحتاج الى اكاذيب كبرى و سرديات شمولية فأن التصدي له و الاشتباك معه ايضا يحتاج الى وقود روحي عال و كثيف ، و هكذا ، فأن القائم بالاحتلال و الذي يعاني الاحتلال يدخلان سجالات لا تنتهي معظمها دموي  صاعق .

ان قرار اسرائيل برفض الدولة الفلسطينية هو قرار سيء و رديء ، ليس لنا فقط ، بل للجمهور الاسرائيلي الذي يتم تعبئته و تحريضه و شحنه و التلاعب به طيلة الوقت ، من خلال ضخ الاكاذيب و الاوهام في رأسه و قلبه ، و هو قرار سيء لنا نحن الفلسطينيين ، لاننا نريد دولتنا و حريتنا و مستقبلنا مثل كل شعوب الارض ، لسنا افضل ولا اقل من كل تلك الشعوب .

ان اختيار اسرائيل الاحتلال كأسلوب حياة هو اختيار صعب و مكلف و قد اثبتت 75 سنة ماضية انها لا تستطيع ان تحتمل تبعاته ولا اثاره ولا نتائجه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى