
عوض ضيف الله الملاحمة
تتبعت الرئيس الأوكراني السيد / فولوديمير اوليكساندروفيتش زيلينسكي منذ الثورة البرتقالية . وكنت معجباً بها كثورة تمثل مرحلة إنتقالية حضارية . وبعد فوزه برئاسة اوكرانيا لجأت الى جوجل لمعرفة فكرة عن شخصه وتاريخه وخبراته . وبعد عدة محاولات تكرر معي انه ممثل ، قلت ولما لا ، فالرئيس الأمريكي الأسبق / رونالد ريغان ، كان ممثلاً . وجوزيف بروز تيتو رئيس يوغوسلافيا كان شاعراً . و علي عزت بيغوفيتش رئيس البوسنة والهرسك كان أديباً . لكن كان يتكرر معي ظهور فيديوهات يمثل فيها زيلينسكي أدوراً اقل ما يقال عنها انها غير محترمة ، او ساقطة ، حيث كان في معظمها يمثل دور المرأة في ادوار غير لائقة . قلت ربما انه تشابه أسماء ، لكن لاحقاً تأكد ذلك .
عندها لم أعد أحترمه ، وإستغربت وصوله الى رئاسة اوكرانيا . وبعد اندلاع الحرب بين اوكرانيا وروسيا ، كان موقفي يتأرجح بين تأييد اوكرانيا لان روسيا هي المعتدية ظاهرياً . وكان موقفي تأسياً بالقضية الفلسطينية . وبعد استمرار الحرب وتكشف اختراق امريكا واوروبا لأوكرانيا وزجها في أتون حرب — بالوكالة ( proxy war ) لإنهاك روسيا — ومحاولات أوكرانيا الانضمام الى الحلف الأطلسي الذي يمثل تهديداً مباشراً لروسيا على حدودها . ثبت موقفي على تأييد روسيا في حربها التي اعتبرتها وقائية . مع نفوري من شخص زيلينسكي ، الذي كنت أعتبره شخصاً أقرب للميوعة منه للرجولة .
الى ان تم التخطيط لنصب فخ خبيث رخيص بدعوة زيلينسكي الى البيت الذي لونه الخارجي أبيض ، لكن ما يتم بين جدرانه يجعل لونه الحقيقي حالك السواد كقلوب ساكنيه . وما ان جلس زيلينسكي الذي يفترض انه ضيفاً ، ويتوجب احترامه كرئيس دولة ، فانهال عليه الحضور بالأسئلة ، وتسابقوا لإرباكه . لدرجة ان أحد الصحافيين هو من بادر بسؤاله سؤالاً سخيفاً حين قال : لماذا لم تلبس بذلة وانت ستقابل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ؟ أيعقل ان يتم سؤال ضيف ورئيس دولة هكذا سؤال !؟ فتبين ان السؤال لم يكن عفوياً بل مقصود منه ارباك الضيف ، وتأكد ان الصحفي الذي بادر بالسؤال ، يعمل في محطة Newsmax التي يمتلكها ترامب . بعدها تناوب ترامب ونائبه — كما الوحوش — بطروحات إستفزازية ، سريعة ، وغير منطقية ، لإرباك الضيف ، وإضعاف موقفه ، وإقتناص موقف منه أمام وسائل الإعلام العالمية . لدرجة ان الكثير من الحديث الموجه للضيف يتضمن إساءات واهانات مباشرة ، منها قول ترامب : أن الرئيس الأميركي الغبي السابق قدم لك ( ٥٠٠ ) مليار دولار ، وانك لا تملك اوراقاً ، وانك لن تنتصر في هذه الحرب ، وان آلاف الناس يقتلون .. الخ . وكانت المفاجأة انه رغم الدعم الامريكي المباشر بالاسلحة الحديثة ، ومئات المليارات ، الذي شكل دعماً لأوكرانيا الذي لولاه لما صمدت لاكثر من اسبوعين ، صمد زيلينسكي ، وثبت على مواقفه ، ونجح في إفشال مقصدهم ، متحملاً الاهانات غير المسبوقة ، وخرج من المأزق قوياً ، ثابتاً ، ومؤكداً انه مع سلام عادل .
عند مشاهدتي لما حدث تخيلت زيلينسكي وكأنه شبل محشور بين أسدين شرسين جارحين ، والأصحّ ضبعين بشعين . الا انه بالنسبة لي فقد خرج منتصراً ، لا بل ولقنهما درساً في الاخلاق والوطنية والثبات .
هكذا يكون الرؤساء . وهكذا تكون مواقف القادة . ينتصرون لأوطانهم بأحلك الظروف والمواقف ، التي أصعبها عندما تتعامل الادارة الامريكية بشكل بعيد جداً عن الدبلوماسية ، واحترام ضيف في مقام رئيس دولة .
المهنة تؤثر على الانسان ، وتصبغه من حيث يدري او لا يدري بطبيعتها وطابعها ومتطلباتها وخصوصية أدائها . تصطبغ شخصية الانسان بمواصفات تلك المهنة . لدرجة انني تخيلت الرئيس الاوكراني وكانه في مكتب سمسار عقاري — مع احترامي لكل المهن — وليس في مكتب رئيس أقوى دولة في العالم . كلهم يتحدثون بنفس الوقت لدرجة انه احياناً يصعب عليك متابعة الحديث ، ولا احد يسمع للآخر .
أمريكا تنحدر قيمياً ، وأخلاقياً ، وسلوكياً ، وحضارياً وتعاملاً . وأعتقد انها تتراجع ، وتنتكس ، وتخسر مكانتها . إنها أسوأ دولة في تاريخ البشرية منذ تأسيسها ، فهي دولة مصطنعة مواطنيها ليسوا أبنائها الحقيقيين . أما زيلينسكي فقد خرج من المأزق الرخيص رئيساً منتصراً لانه أفشل مخطط ترامب في عرينه .
صدق المثل الذي يقول : ( الرجال صناديق مقفلة ) . فالمواقف الصعبة هي التي تُظهر مواقف الرجال ، وجودة معدنهم ، وصلابة مواقفهم ، وثبات دفاعهم عن اوطانهم . فها هو زيلينسكي قد واجه قهر الرجال برجولة وثبات حتى انه قهرهم بدل ان يقهروه ، واحرجهم بدل ان يحرجوه .