الحرب القذرة وإدارتها المتوحشة على غزة
حسن محمد الزبن
إسرائيل تريد أن تغطي على خزيها وعريها الفاضح في سلوكها العدواني بعد أن فقدت قدرتها في إقناع العالم بمسلسل دموعها الكاذبة، وأنها ضحية مجتمعات عربية تكيل لها الحقد والكراهية، وأن أعمالها التي تمارسها على الشعب الفلسطيني هي ردة فعل ضد المقاومة التي تخرج عليها في كل مدن فلسطين، وأنه لا بدّ من التعاطف معها، وأن تجد العون والدعم من الغرب، وعلى رأسهم أمريكا، لتبقى لدولة إسرائيل سيادتها وهيبتها في المنطقة، وأن ما حدث في غزة ما هو إلا رد اعتبار لها.
لكن بعد 7 أكتوبر، واليوم وغدا، ما عادت تُصدق أكاذيب إسرائيل، وحتى أمريكا وإدارة “بايدن” وإن كانت اليد اليمنى التي تضرب غزة نصرة لإسرائيل وحكومة تل أبيب، فإنها في موقفها هذا المساند صراحة وعلانية قد كشف انحيازها المطلق لمصالح وأهداف إسرائيل التوسعية، فإني أعتقد أن مكانتها كدولة عظمى قد تراجعت على الأقل بنظر الشعوب ووقعت في سقطات أخلاقية تؤكد سيطرة اللوبي الصهيوني على كثير من أبوابها السياسية وأروقة البيت الأبيض.
ويكفي إسرائيل وحكومتها ما لاقته من زلزال المقاومة، وكسر لشوكتها في تاريخ الحروب العربية، لتبقى حبيسة بين عقدتين، عقدة معركة الكرامة التي خاضها الجيش العربي الأردني بمشاركة مجموعات العمل الفدائي التي كانت على أرض الأردن، وعقدة 7 أكتوبر التي خاضها رجال المقاومة على أهم المناطق حساسية وأعقدها تحصينا، وحتى السرية منها، مع التشابه في قلة الإمكانات العسكرية الأردنية في معركة الكرامة، وكذلك نفس المستوى من الإمكانات بالنسبة للمقاومة في عمليتها التي ضربت معاقل الكيان وأوجعته، مقابل القدرات العسكرية الإسرائيلية وطيرانها المتفوق والمتعاظم منذ معركة الكرامة، وحتى اليوم.
ما يحدث اليوم أن الجيش الإسرائيلي ليس وحده في مواجهة المقاومة المسلحة الفلسطينية من كتائب القسام، والأجنحة الأخرى، بل إن الغرب يقف معها لموقف أمريكا التي وقفت كشريك يخوض جنرالاتها وجنودها الحرب جنبا إلى جنب مع القوات الإسرائيلية التي تداهم غزة، برا وبحرا وجوا، من خلال أحدث الطائرات الحربية في العالم، وأحدث البارجات والغواصات وحاملات الطائرات، عدا عن موقفها الساسي الواضح أمام العالم من أصدقاء وحلفاء وأعداء، وأدرك الكل أن الصهيونية هي التي تحكم العالم وتحرك أمريكا وغيرها حتى لا تمس إسرائيل وأن لا تعطل أحلامها.
ومن هنا أصبح الأمر جليا بعد خرق الهدنة واستئناف القتال من الجانب الإسرائيلي لتحرق الأخضر واليابس في قطاع غزة بأسلوب ممنهج أهم أهدافه التهجير ولا شيء غير التهجير، فكان القتل بوحشية ودون أخلاق كالسابق، ولكن بوحشية وشراسة أعتى باستهداف المدنيين والدمار الذي يلحق المباني حتى تتطاير الأشلاء وتتناثر تحت الركام بفعل صواريخ وقذائف أمريكا التي ذُخرت فيها الترسانة الإسرائيلية منذ أول أيام الحرب على غزة.
حتى أن استئناف الحرب يعطي جوابا أنه ليس من أهمية لما تبقى من الأسرى الـ (131) لدى المقاومة، دون الالتفات للنصائح والوساطات الدبلوماسية بأهمية اكتمال الهدنة لتحرير الأسرى، إلا أن انقسام حكومة تل أبيب على نفسها، وما يحيطها من ارتباك والخشية من محاكمتها، أو الإطاحة بها من الداخل الإسرائيلي الذي يعيش جدلا وخلافا حادا بين مؤيد ومعارض للحرب، إلا أن دولتها العميقة التي تتشارك الرأي مع الإدارة الأمريكية وحكماء البنتاغون أن أفضل السنوريوهات استئناف الحرب ليسلم رأس نتنياهو مع تلاف أخطاء أول الحرب، بتخطيط أبشع وأقذر، مما كان عليه في الجولات الأولى قبل الهدنة.
ما هو معروف أنه خلال فترات الهدنة وقبلها تم تزويد الجيش الإسرائيلي بترسانة أسلحة متقدمة، وحتى منها ما لم يستخدم في حرب سابقة، منها القنابل الذكية المخصصة لاختراق التحصينات والأنفاق، وقد يكون وقت الهدنات السابقة التي استغرق وقتها تبادل الأسرى قد حالف الحظ استطلاعات الطيران الأمريكي والبريطاني وأجهزة التجسس وتقنياتها العالية من الحصول على معلومات عززت قرار استئناف الحرب.
وأؤكد هنا أن الهدف لم يعد رأس يحيى السونار، ولا محمد الضيف، أو غيرهما من قادة حماس بقدر قتل أكبر عدد من الأبرياء المدنيين أطفالا وشيوخا ونساء، لأجل إجبار القطاع على الرضوخ لسياسة التهجير القصري المرسوم كمخطط مسبقا منذ عام 1972م، ومتجدد، ويتجدد في هذا الوقت تحديدا بتجديد مسار النزوح إلى الجنوب كمنطقة آمنة حسب زعمهم، تمهيد للتهجير إلى سيناء، والمخطط لا ينتهي هنا في غزة بل سيتم التصعيد في الداخل الفلسطيني لافتعال التهجير القسري لأهل الضفة باتجاه الأردن، وفي كلا الاتجاهين للتهجير هناك رفض شديد من الجانب المصري والأردني، وتبقى المراهنة على المواطن الفلسطيني في غزة والداخل الفلسطيني بالتمسك بأرضه لافشال المخطط الصهيوني.
أمام مباركة أمريكا لخطوات ربيبتها إسرائيل فيما هي متجهة إليه ما يؤشر أن إبادة بشرية يتم تنفيذها في قطاع غزة بدم بارد وأمام صمت دولي لما يجري بحق شعب بأكمله، يعتبر كارثة إنسانية قد تكون الأكبر في التاريخ المعاصر في غياب الإغاثة والمساعدات الإنسانية التي لم يهيأ لها ظروف الدخول إلا بالنذر اليسير والذي كان لإدارة إسرائيل اليد الطولى في هذا المنع الجائر، ووضع كل المعيقات لدخولها خدمة للمصالح الإسرائيلية في التجويع لقطاع منكوب يتنقل من الشمال إلى الجنوب، والآن من الجنوب إلى الشمال أو الوسط، وكل هذا تهيئة وتكريس لظروف صعبة للغاية يعيشها الفلسطيني قد تصل في أي وقت للتهجير.
الدعم الأمريكي لا حدود له للعملية العسكرية الشاملة على غزة، ويبدو وحسب التقارير اليومية لوكالات الأخبار أن هناك من الضرورة إكمال الهجمات الإسرائيلية الهمجية وفعل ما تشاء لتحقيق أهدافها في تدمير المقاومة وتدمير القطاع بأكمله إذا لزم الأمر، المهم قبل أعياد الميلاد، تحقيقا لأي نصر يمكن التباهي به وإعادة الثقة للجيش الإسرائيلي المنهار.
هذه هي الحقيقة للدولة الغادرة التي أصبح وجهها أكثر بشاعة وأكثر دمامة، فوزير دفاعها “يواف غالانت” يتبجح أن “جيش إسرائيل استطاع استعادة 110 من المخطوفين، وهو ما لم يحققه أي جيش في العالم”، فأي استخفاف بعقول العالم يعد هذا؟! وكأنه أعادهم على ظهر دبابة إسرائيلية بعد تخليصهم من أعماق الأنفاق التي تتخندق فيها المقاومة، ويصر على أنه “لا بدّ من تحقيق أهداف الحرب وكسر قوة حماس العسكرية والسلطوية وإعادة باقي المختطفين”، ويقصد- أسرى حرب 7 أكتوبر-، بل ويتشدق كذب بتدمير مقار حماس، وأنه تم اعتقال المئات، وتتبعها لوثات نتنياهو حيين يقول “لقد قمنا حتى الآن بتصفية حوالي نصف جنرالات حماس”، وأقوال أخرى لـ “غانتس” وكلها من لغة مرتجفة، لا تكاد تصل لصباح اليوم التالي وتكتشف زيفها وكذبها، فمنذ الحرب على غزة، وما نتابعه عن الناطق العسكري الإسرائيلي، وتصريحات كل من ذكرتهم من نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب، ما هو إلا محض خيالات وأوهام في عقل مجرمي الحرب الصهيونية، كادوا يصدقونها من كثرة ترديدها في تصريحاتهم على الشاشات والفضائيات ودور الأخبار وأمام رعاياهم وأهالي الأسرى.
الواقع السياسي والعسكري اليوم وصل حد الهشاشة والانحدار والتفسخ وانعدام الثقة، ولا أدل من ذلك ما حدث وصرحت به القناة 13 الإسرائيلية بأن “حراسة رئاسة الوزراء بإسرائيل طلبت تفتيش أغراض رئيس الأركان بحثا عن جهاز تسجيل لدى دخوله مجلس أركان الحرب”، وهو ما أكده رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” المدعو “أفيغدور ليبرمان” قوله “تفتيش رئيس الأركان إذلال لجميع جنود الجيش الإسرائيلي”، وليس هذا فحسب بل صرح أيضا أنه “لا يجب أن نسمح لنتنياهو المصاب بجنون العظمة أن يقود الحرب”.
الحقيقة تقول بعد استئناف الحرب على غزة بعد الهدنة الإنسانية التي لم تكتمل أن “إسرائيل” التي يحكمها القتلة قد راهنوا أن المزيد من الدمار والإبادة والظلم والقهر والدم والدخان بالآلة العسكرية الآثمة والتي لا زالت تتوعد بضربة قاصمة وتسوية الأرض، ودفن الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ تحت الركام دون مبالاة أو اكتراث لما يراه العالم من مشاهد مفجعة ومؤلمة هو الطريق للخروج من النفق المظلم لنتائج الحرب، وفي ذهنية وعقل أركان تل أبيب أن هذا سيكون الضغط المؤثر على قادة المقاومة للرضوخ والاستسلام والإحساس بعقدة الذنب اتجاه ما يحصل ويخيم على القطاع بكامله موشح بلون الدم في جهة، ولون السواد والدخان في جهة، وهول الحطام والركام في كل زواياه وطرقاته وأحيائه ومبانيه التي سقطت وأصبحت مقبرة لساكنيها.
كل هذا يعزز مدى التخبط والفشل والهزيمة الذي تقوده غرفة عمليات أركان الحرب الإسرائيلية في إدارة الحرب التي لم تحقق أي هدف عسكري على أرض غزة، عدا عما شهده العالم من قتل مروع ومفجع للمدنيين الأبرياء.
أخيرا سندخل العام الجديد دون أي تقدم أو تحقيق للأهداف العسكرية التي أعلنها الكيان الصهيوني باستسلام قادة حماس وتفكيك الحركة، وستبقى المقاومة قادرة على خوض الحرب حتى يتراجع الصهيوني عن أهدافه، ولن تفلح الاملاءات والمخططات المشتركة الامريكية -الاسرائيلية، بما يخطط لمستقبل غزة بعد الحرب.