
عوض ضيف الله الملاحمة
أمنيتي ان يرتقي بعض الكتاب والاعلاميين الأردنيين الى مستوى الأحداث ، وان يسبروا أغوارها بفهم عميق دقيق ، وان يعكسوا ذلك بكتاباتهم وأحاديثهم . كما على البعض ان يدركوا ان زمن التصفيق والتلفيق الممجوج يسيء ولا يخدم ، وانه اصبح أمراً مكشوفاً .
لم يعد التصفيق في القلم واللسان مُجدياً ، لأسباب عديدة منها : أولاً :— لأنه ضد طبيعة الأشياء ، فالقلم خُلِق لكتابة وتسطير الآراء والتعبير عنها ، واللسان خُلِق للتعبير عن الأفعال بالأقوال . وثانياً :— لم يعد القراء اليوم كما كانوا قبل عقود ، حيث سقطت الكثير من المسلمات وأصبح الصدق منجاة ، ومنهج كل قلمٍ صادق ، حاذق ، شريف .
شاهدت الفيديوهات التي تم نشرها عن لقاء ملك البلاد بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، واستمعت للترجمة الفورية ، لكنني ركزت على ردودهما باللغة الإنجليزية ، التي أعتبر ان ملك البلاد فارسها ، ومُتقنها ، وانه يجيد اللغة الإنجليزية ومتمكناً منها وان دقته متفردة في انتقاء الكلمات ، أكثر بكثير من الرئيس الأميركي ترامب ، غير المتمكن من لغته ، ويغطي دوماً على عدم تمكنه بالتحدث باللهجة الإمريكية ( لهجة العامة ، او لغة الشارع كما يُقال ) .
ومما قاله الملك بدبلوماسية إحترافية لتجنب الرد المباشر والواضح على مطالبات ترامب ، حيث استطاع ان يوجه الحديث الى العموميات ( وان يأتي بترامب اليه بدل ان يأخذه ترامب لعنده ) . حيث قال ملك البلاد : انا أؤمن على ضوء التحديات التي نواجهها في الشرق الأوسط ان هنالك فرصة لتحقيق الاستقرار والسلام والازدهار لكل الدول في المنطقة ، واعتقد ان مسؤوليتنا جميعاً تتطلب العمل معك ودعمك لتحقيق تلك الأهداف . كما تهرب ترامب من سؤال تم توجيهه له عن قلق الأردنيين من ضم الضفة ، وهل ستعطي الملك ضمانات بعدم حدوث الضم ؟ رد ترامب : ان هذا ليس ما نتحدث عنه اليوم ، ونعتقد ان هذه الامور سيتم ترتيبها بشكل تلقائي ، والوضع جيد ، وسنتوصل الى ترتيبات تتعلق بالضفة الغربية . سؤال : ماذا اذا رفض الملك إستقبال الفلسطينيين ؟ قال ترامب : لا أدري اذا ما كان الملك لديه ما يقوله ؟ وهنا قصد إحراج الملك . قال الملك : ناقشنا هذا الوضع بشكل سريع ، السيد الرئيس اعتقد انه علينا ان ناخذ في حسباننا ان هناك قمة ستشارك فيها مصر والاردن وتمت دعوتنا من قبل ولي العهد محمد بن سلمان ولي العهد السعودي ، وستتم مناقشة هذا الموضوع في الرياض ، وطبعاً يجب ان نأخذ في اعتبارنا مصلحة الولايات المتحدة ومصالح الدول وعلى وجه التحديد شعبنا في الأردن ، وسنبحث هذه الأمور ، ويمكننا استقبال ( ٢,٠٠٠ ) طفل من المرضى الفلسطينيين الى الأردن ، وسننتظر ما تقدمه مصر بشأن العمل مع الرئيس . أفلت الملك من هذا الفخ بدبلوماسية شديدة ، وقدم طُعماً ليوهمهم بشيء من المرونة . ترامب قال : لم اكن اعرف ذلك واستقبال هؤلاء الأطفال يعتبر لمسة طيبة ، ونحن سنعمل على الباقين ، اما بالنسبة لمصر اعتقد انكم سترون تقدماً جيداً ، ومع الأردن سيكون هناك تقدماً ايضاً ، وثلاثتنا يمكن ان نتوصل الى ترتيبات ، ويمكن ان تشارك جهات اخرى ، الأمر ليس بذلك التعقيد ، ومع سيطرة الولايات المتحدة على هذه الاراضي الشاسعة سيكون هناك استقراراً وسلاماً في الشرق الأوسط للمرة الأولى . والفلسطينيون الذين يعيشون في غزة الآن سيعيشون بشكل جميل في اماكن اخرى وسيعيشون بأمان ، طبعاً هم يتعرضون للقتل والنزوح كل عشر سنوات ، الجميع يُقتل ويُسرق ويُنهب ، والوضع اشبه بالعيش في الجحيم ، سيحضون بوطن جميل وبعائلات لا يتعرضون للقتل والنهب والسرقة والإساءة من قبل حماس او جهة أخرى ، واعتقد بنسبة (٩٩٪ ) اننا قادرون على وضع ترتيبات مع مصر ، ونحن لن نشتري شيئا . وفي سؤال : الا تعتقد ان ذلك سيقوض المحادثات التي ستجريها مع الملك ؟ رد ترامب : نحن نناقش أمراً سيسير بشكل سريع ، ولن يأخذ وقتاً طويلاً ، سؤال : قلت إن الفلسطينيين سيعيشون في مكان آخر ، اين تريدهم ان يتم توطينهم ؟ اعتقد ان هناك اراض مختلفة ، واعتقد ان الأردن تمتلك اراض مناسبة وكذلك مصر ، وفي اماكن اخرى ، وعندما ننهي محادثاتنا اعتقد اننا سنتفق على مكان يعيش فيه الفلسطينيون بسعادة وأمان ، هم يريدون البقاء في غزة لانهم لا يعرفون مكاناً آخر ، هم لا يريدون العيش في غزة ، واذا توفر خيار بديل لن يبقَ احد . سؤال موجه للملك : ماذا بخصوص سيطرة امريكا على غزة ؟ الجواب : هنا تجاهل الملك السؤال، وقال : الرئيس يتطلع الى مصر لتقديم حصتها ، ونحن سنذهب الى السعودية لمناقشة كيف يمكن ان نعمل مع الرئيس ، اذا لننتظر الى ان تقدم مصر خطتها الى الرئيس . سؤال : هل هناك اراض في الأردن يمكن ان تقدمونها ؟ قال الملك : وهنا تجاهل الملك السؤال ونسب قوله للرئيس وقال : ان الرئيس قال انني سأركز على ما فيه مصلحة بلدي ، والرئيس سعيد بذلك بشأن استقبال الفي طفل من مرضى السرطان واعتقد ان الرئيس يتطلع الى استقبال عدد من زعماء الدول العربية لمناقشة خطة شاملة .
من المقتطفات المذكورة اعلاه وعندما نقارن بين الرئيس ترامب والملك نجد الفارق الكبير بين وقاحة الرئيس في الطرح ، ولباقة الملك ودبلوماسيته . حيث قابل الملك فجاجة طرح الرئيس بلباقة ودبلوماسية احترافية ودقة شديدة في انتقاء الكلمات . يضاف الى ذلك البراعة في تجاهل الإجابات
الواضحة ، وانتقاء الكلمات الفضفاضة حمالة الأوجه ، يضاف الى ذلك تحويل الأمر الى انه قرار عربي لا يتعلق بالأردن لوحده ، وبهذا تم تعويم الردود وتحول القرار الى العرب . وهذا صحيح ودقيق لأن الأردن ليس باستطاعته تحمل القضية الفلسطينية منفرداً ، لأن القضية الفلسطينية قضية العرب جميعاً .
مع الأسف ان الذين يجيدون التملق والتصفيق أشعرونا وكأننا في معركة وانتصرنا وانتهى الأمر . والحقيقة ان ما حدث ليس اكثر من جولة تعقبها جولات يتم الضغط فيها للحصول على إجابات واضحة على تساؤلات محددة . وان ملك البلاد قد برع في الإفلات من إعطاء إجابات قاطعة واضحة ، كما انه ابدع في رمي الكرة في ملعب الزعماء العرب جميعهم ، وأبعد الأردن من مطالبته بالتفرد بالقرار .