ذكرى وعد بلفور ما بين نتائجه الاستعمارية ونسخه المتكررة يستمر نزيف الجرح الفلسطيني

عبد الله توفيق كنعان
أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس

تتعاقب على أمتنا بعض الذكريات والمحطات التاريخية المؤلمة، وللاسف قد أصبحنا اليوم نستحضر معها تداعيات خطيرة تعصف بحالة السلام والامن في المنطقة، وتعارض تطلعات الامة والأجيال بالاستقلال والحرية ، ومن محطات هذه الذكريات تصريح أو وعد بلفور بتاريخ 2 تشرين الثاني عام 1917م، والمتضمن وعد وزير خارجية بريطانيا للصهيونية بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين العربية المستعمرة، وهو وعد من لا يملك الحق بالارض لمن ليس له حق مشروع في أرض مستعمرة، لها شعبها العربي الضارب تاريخه و حضارته في أعماق التاريخ، وعد باطل يخالف التاريخ والقانون والاخلاق والأعراف.
واليوم وبعد مرور (107) أعوام على هذا الوعد المشؤوم، تعيش فلسطين المحتلة واقعاً مريراً من السياسة الصهيونية الاسرائيلية الوحشية، نتج عنها سلسلة من محطات الابادة والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، منها اليوم العدوان على غزة والمستمر منذ أكثر من عام، والذي ارتقى على اثره اكثر من 43 الف شهيد و100 الف جريح ومليوني نازح وعشرات الالاف من المفقودين والمعتقلين، ليس ذلك فحسب بل إمتدت يد البطش الاسرائيلية لتصل لبنان وسوريا واليمن والعراق ودول عديدة في المنطقة، سواء باجتياحها برياً كما هو الحال في جنوب لبنان، أو بتكرار قصفها والاعتداء على سيادتها، اضافة الى تعريض حالة السلام في المنطقة والعالم للهاوية.
وبالنظر الى الفترة الزمنية ما بين وعد بلفور ومخططات اسرائيل تغيير خارطة المنطقة، نقف عند الكثير من الوعود البلفورية الخطيرة سواء بتثبيتها لوعد بلفور أو زيادتها عليه حالة الاستعمار وعدم الاستقرار الناتجة عنه، وهنا نشير في البداية الى مهد ولادة هذا الوعد المشؤوم، حيث بدأت تتضح معالمها في مناخ من المصالح الاستعمارية المشتركة وكنموذج عليها نذكر العالم بنداء ورسالة القائد الفرنسي نابليون بونابرت لليهود عام 1799م ووعده لهم بمساعدتهم على الاستيطان في فلسطين، رغبة منه الحصول على دعم يهودي لتمويل حملته انذاك على مصر وبلاد الشام، وبنفس الاتجاه الاحتلالي كان خطاب الالماني (دوق إيلونبرج) باسم حكومة القيصر الالماني عام 1898م، الذي أعلن فيه الاستعداد إلى مساندة مشروع الكيان الصهيوني فور قيامه، والمحطة الاخطر التي تبلور فيها المشروع السياسي الاستعماري الصهيوني هي المؤتمر الصهيوني الاول المعروف بمؤتمر بال عام 1897م، الذي تقرر فيه تشجيع هجرة اليهود الى فلسطين المستعمرة، والعمل على تنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية والعمل على تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية، ولاحقاً جاءت رسالة (فون بليفيه) وزير الداخلية الروسي الى هرتزل عام 1901م مفادها استعداد روسيا دعم اليهود بغية تأسيس دولة يهودية في فلسطين، واستكمالاً لهذا الوعد كان عام 1948 حيث انشاء اسرائيل( السلطة القائمة بالاحتلال) وان كان مشروطاً بتطبيقها واعترافها بقرارات اممية سابقة تقر بدولة فلسطينية، وفي التاريخ الحديث جاءت وعود بلفورية ظالمة منها على سبيل المثال لا الحصر اعلان الرئيس الامريكي السابق ترامب عام 2017م، اعترافه بالقدس عاصمة مزعومة لاسرائيل وما تبعها من اجراءات باصدار اسرائيل ( السلطة القائمة بالاحتلال) لقانون الدولة القومية عام 2018م، ولاحقاً اطلاق العديد من المشاريع والمخططات مثل مخطط ضم الأراضي في الضفة الغربية المحتلة، والتوسع الاستيطاني ومصادرة الاراضي وزيادة التضييق على اهلنا في فلسطين والقدس في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحرية العبادة باقتحامها للمقدسات الاسلامية والمسيحية وفي مقدمتها المسجد الاقصى المبارك.
ان كل المؤامرات التاريخية وحالة الضعف والتفكك التي تعيشها أمتنا والدعم من بعض الدول الغربية لاسرائيل ومشاريعها الاحلالية، لا يمنع من السقوط التاريخي والقانوني لوعد بلفور المشوه والباطل، حيث يمكن ملاحظة ما يلي :
1. ان هذا التصريح أعطي دون وجود أي صلة لبريطانيا بفلسطين حتى قبل انتدابها على فلسطين ( فقد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق) .
2. أعطي التصريح دون موافقة أو قبول من الدولة العثمانية صاحبة السيادة والولاية القانونية آنذاك على فلسطين التاريخية وعبارة السلطان عبد الحميد الشهيرة دليل على ذلك الرفض، والتي قال فيها :” لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي”.
3. يتناقض هذا الوعد مع الاتفاقيات والوعود البريطانية الصادرة للعرب مثل تعهد بريطانيا في مراسلات المغفور له الشريف الحسين مع مكماهون ممثل بريطانيا اعترافها باستقلال الدولة العربية ومن ضمنها فلسطين التاريخية، كذلك يناقض تعهدات بريطانيا مع حليفتها فرنسا انسجاماً مع اتفاقية سايكس بيكو التي اعتبرت أجزاء من فلسطين دولية بما فيها مدينة القدس المحتلة.
4. لم يكن تصريح بلفور اتفاقية دولية اي بين دولتين وبالتالي لا يترتب عليه أي صفة قانونية دولية تلزم المجتمع الدولي تجاهه.
5. يتناقض التصريح مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ويتناقض ايضاً مع ميثاق عصبة الأمم المتحدة وتحديداً المادة 20، والتي تنص على أن هذا الميثاق يلغي كل الالتزامات والاتفاقيات التي تصدرها الدول وتتعارض مع الميثاق بما في ذلك تعارضه مع حق الشعوب في تقرير مصيرها
ان اللجنة الملكية لشؤون القدس وبمناسبة الذكرى ال 107 لوعود بلفور المشؤوم، تؤكد ان الوعود والمخططات الظالمة التي لا تقوم على الشرعية التاريخية والقانونية وتهضم وتنكر حقوق الشعوب لا يمكن ان تؤدي للسلام والامن المزعوم، ووعد بلفور مات قبل ولادته ولا يمكن له الحياة بوجود شعوب تناضل وتدافع عن حقوقها التاريخية والوجودية، وسيبقى الاحتلال الاسرائيلي وممارسات حكومة اليمين المتطرفة ومواقف الكيل بمكيالين بما في ذلك مساهمات الاستعمار البريطاني سابقاً وسلاح الفيتو والدعم الشامل لاسرائيل، جميعها ليست سبيلاً للامن والسلام والعدالة الأممية، بل هي وقود تحرقه الشعوب في صمودها ونضالها للحرية والاستقلال، وعلى العالم الحر والدول التي ساهمت في هذه الوعود الظالمة ان تكفر عن خطاياها بالوقوف الى جانب حق الشعب الفلسطيني في حريته واستقلاله ودولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
وسيبقى الاردن شعباً وقيادة هاشمية صاحبة الوصاية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس السند لاهلنا في فلسطين مهما كان الثمن وبلغت التضحيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى