الشياب يكتب: مؤسساتنا بين الالهام والابتكار وبين هيمنة القيادات الوسطى

 

فاروق الشياب

في بداية العام الماضي التحقت بالعمل لدى إحدى الوزارات الكبرى في بلدنا الحبيب بعد أن عملت لأكثر من اثني عشر عامًا في القطاع الخاص بوظيفة تختص بالإبداع والابتكار لغايات التسويق.
وظيفتي الحكومية الجديدة كانت غاية في الجمود بطبيعتها لكونها وظيفة فنية صَرفة بلا أي مدخل أو مخرج يؤدي لأي ابداع أو ابتكار، ولكن انعكاسًا لخبرتي في العمل الإبداعي بدأت بعمل تغييرات طفيفة على صعيد الفضاء المكتبي لأقوم حينًا بإعادة ترتيب ملفات ورقية معينة وأحاول حينًا آخر تغيير بعض الإجراءات البسيطة بنية تحسين بيئة العمل ضمن صلاحياتي المحدودة والتي اجتهدت فيها قدر الإمكان فكان من حظي الإصابة في بعضها والخطأ في بعضها الاخر.
ونتيجة لذلك كانت ردة الفعل من قِبل من لهم علاقة بعملي من الإدارات الوسطى -التي أتبع لها- أو حتى من قبل الزملاء تتلخص عادةً بالإهمال أو الاستخفاف أو السلبية او التعجب من أي مبادرة مهما كان حجمها أو ما ينتج عنها.
ولكن قاموسي الشخصي لا يوجد فيه مصطلح “الاستسلام”، فهذا الطبع فطري في نفسي و تم تقويته وصقله من خلال العمل في القطاع الخاص ذو التنافسية العالية والفاعلية القصوى.
فأفكاري الكامنة لا تبقى عادةً حبيسة دماغي بل أترجمها على أرض الواقع إما بالتنفيذ المباشر أو بالسعي لتطبيقها، وعليه فقد سَرَت إلى مخيلتي بداية هذا العام بوادر فكرة إبداعية فسعيت قدر المستطاع أن تجد سبيلها من بواطن العقل إلى ميدان التنفيذ، هذه الفكرة تمحورت حول تطويع تطبيقات الذكاء الإصطناعي لتحسين جودة إحدى الخدمات التي لطالما عانى بعض المواطنين من انقطاعها في مراكز خدمية معينة أو من التأخر بتقديمها نتيجة لعدم وجود الكادر المؤهل.
فقد تلخصت الفكرة بدمج تطبيق للذكاء الإصطناعي لتسريع وتحسين الخدمة المقدمة وتقليل العبء المادي المُلقى على كاهل متلقي الخدمة في حال انقطاعها. و عندئذِ بدأت بالسؤال عن نافذة تُعنى بطرح هكذا أفكار فلم أجد مطلقًا آنذاك أي نافذة حكومية فعالة تختص بهذا الشأن وإنما بعض الحواضن الإبداعية التابعة للقطاع الخاص وشركات الاتصالات تحديدًا.
هنا لم استسلم!! وواصلت البحث عن منفذ لعل هذه الفكرة تخرج إلى النور، إلى أن أشار عليّ أحد الزملاء بإرسال الفكرة لأمين عام الوزارة التي أتبع لها!! و هنا سألته هل يمكن لأمين عام وزارة كبرى هي من ضمن أكبر وزارتين على مستوى الوطن أن يلتفت لرسالة موظف في أدنى السلم الاداري؟؟ فأجاب: إن هذا الأمين العام سيتواصل معك بشكل مؤكد في حال وجدت قيمة مضافة للفكرة المطروحة.
و بالفعل قمت بإرسال مضمون الفكرة للأمين العام والتي كان لاسمها نصيب في طبيعتها وإدارتها بل ولها نصيب من اسم هذا المقال ولم أكن أتوقع الإجابة في وقت قريب بل لم أتوقع الإجابة أصلاً!! ولكن بعد يومين فقط تلقيت اتصالاً من مكتب الأمين العام يدعوني للقاء عطوفتها، وهنا بدأت ادرك الطبيعة الفريدة لهذا المسؤول.
وبالفعل بعد بضعة أيام تم تحديد موعد لمقابلة الأمين العام وهنا وأثناء الإجتماع لمست تميز هذا المسؤول فقد قامت بتقديم موعدي على كل المواعيد المقررة ذلك اليوم وما إن جلست حتى أطرقت لي منصتة بإهتمام بالغ وانتباه مدوِّنةً ما تراه مُهمًا وأخذت تطرح الأسئلة على الفكرة وما شرحت عنها.
وانتهى الإجتماع بأن أبدت إعجابها بالفكرة و نيتها بالبدء بتقييمها ودراستها وتنفيذها من خلال لجنة يتم تشكيلها فورًا، و بالفعل تم تشكيل لجنة ضمّت مجموعة من مدراء (القيادات الوسطى) المعنيين بالفكرة بالإضافة لأستاذ جامعي متخصص بالجانب التقني الذي يتعلق بهكذت مشروع.
و من هنا بدأت المعاناة!!
تم تحديد موعد لعقد اللجنة المعنية و عليه بدأتُ بالإعداد المفصّل للأطروحة التي سأقدمها من خلال إعداد شرح تقديمي يوضح أهم النقاط التي تلخّص الفكرة وآليات تنفيذها.
وفي يوم الإجتماع، وصلت قبل الوقت المحدد للإجتماع ببضع دقائق ووصل معي أستاذ جامعي من خارج الوزارة، دخلنا قاعة الإجتماعات والتي كانت جدرانها ومقاعدها تنتظر من يؤنس وحدتها من الأعضاء، فظننّا بأننا مخطئين بالمكان ولكن منسقة اللجنة أشارت إلى أن هذا هو المكان الصحيح.
طال انتظارنا لحين امتلاء مقاعد اللجنة من قبل “هذه القيادات الوسطى” لأكثر من ثلاثين دقيقة حتى اكتمل العدد، وبعدها بدأتُ بتقديم الشرح التفصيلي و دهنا كانت المفاجأة فقد كان باعتقادي بأنني سأجد الحد الادنى من الاهتمام بالفكرة أو على الأقل الدعم المعنوي لكوني بادرت بطرح فكرة جديدة ولكن ما لمسته كان عكس ذلك تمامًا، كما أنني اعتقدت بأنه بعد انتهائي من تقديم الفكرة سيبدأ الأعضاء بالنقد البنّاء للفكرة بنيّة الوصول بها للمستوى المطلوب الذي يقربها من التنفيذ ولكن تجري اللجان بما لا تشتهي السفن.
فما إن بدأ الإجتماع حتى ساد ذلك الجو الذي اجتاح أيامي الأولى في دوامي الحكومي وكمية الإحباط التي تلقيتها من إحدى الإدارات المتوسطة البائسة، ففي بداية الإجتماع وبمجرد بدئي بتقديم الفكرة بدأ أحد أعضاء اللجنة بمقاطعتي بشكل فج والتقليل اللا محدود من قيمة فكرتي بل والحديث السلبي المطول عن عدم جدوى هذا الإجتماع أصلاً وخلو الفكرة من أي قيمة.
كل ردة الفعل الغاشمة هذه حدثت قبل أن أكمل قراءة أول شريحتين من العرض التقديمي الذي اجتهدت لإعداده. ولكنني كما أسلفت لا استسلم بسهولة فقد أكملت شرحي كما يجب أن يكون، وهنا لحق بصاحبنا المُحَبِّط مُحَبِّط أخر من ذات اللجنة و تآزرا في الإنتقاد و الإسهاب لكل ما يخدم إحباط الفكرة وعند محاولتي مواجهة هذه الحالة، استشاط المُحَبِّط الثاني لحدٍ وصل إلى التهديد الوظيفي المباشر في حال لم أكف عن الدفاع عن فكرتي مما دفعني إلى التراجع.
في هذه المرحلة أدركت أن الموضوع لن ينجح من خلال هذه اللجنة وبأنني أواجه تيار يرفض مجرد حديثي عن الفكرة، وأي طرح يخرج عن إطار الانسياب اليومي المعتاد للعمل، فاختصرتُ على نفسي معاناة الحديث والدفاع والإقناع و أرحتهم من عناء البقاء في الإجتماع.
بعد ذلك الاجتماع (الكارثي) بعدة أيام تشاء الأقدار أن يتم طرح مسابقة للابتكار في الوزارة، وتشاء الأقدار أنني قمت بتقديم نفس الفكرة للمسابقة، هذه الفكرة التي لم تلبث أن تأهلت لتكون من ضمن أفضل خمس أفكار مختارة من قبل لجنة التحكيم ولاحقًا تم اختيار الفكرة لتفوز بالمركز الأول بهذه المسابقة والتي على أثرها -و بشكل غير متوقع- استلمت جائزة المسابقة من نفس يد الأمين العام التي أخذت بيدي منذ البداية.
من خلال هذه التجربة القصيرة استطعت تكوين قناعة بأن من أهم ما يؤخر مؤسساتنا العامة و وزاراتنا هو سوء أداء واختيار القيادات الإدارية الوسطى والتي تمتاز بمقدار عالي من السلبية والرتابة والخوف من كل جديد أو تغيير.
القيادات الوسطى هذه تقف حاجز منيع بين ما قد يجتهده الموظف العادي وبين القيادات العليا والتي قد تحمل قدرًا كبيرًا من الإيجابية والرقي بالتعامل مع الأفكار المطروحة بل و تتعطش لدعمها.
القيادات الوسطى.. القيادات الوسطى.. القيادات الوسطى.. هي حجر الزاوية في تقدم مؤسساتنا وتحسين أدائها و تعزيز الجودة، وهي أيضًا سر التأخر الحالي لكثير من مؤسساتنا الكبرى، وإن لم يتم إخضاع هذه القيادات للتقييم والفلترة من خلال مؤشرات أداء تُعنى بدعم الإبداع والابتكار و التحسين ستبقى هذه المناصب والمسميات عبارة عن ((إدارات)) لواقع رتيب لا ((قيادات)) تسعى لتنفيذ رؤية تلك المؤسسات والوزارات بالتحسين المستمر والابتكار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى