
د .صالح ارشيدات
دأبت حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة، منذ قيام الكيان الصهيوني، على الترويج لصورته كـ”واحة ديمقراطية” في قلب الشرق “المتخلف”، مستندة إلى خطابٍ إعلامي وسياسي مُمنهج يقدّم “إسرائيل” بوصفها الامتداد الحضاري للغرب في المنطقة العربية، وحاملة لواء الحداثة والليبرالية في وجه ما تصفه بـ”بربرية الشرق”. وقد بلغ هذا الخطاب ذروته مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، الذي لم يتردد في الإعلان صراحةً أن “إسرائيل” تخوض حروبها، لا من أجل أمنها فقط، بل دفاعًا عن “العالم المتحضر” بأسره. ففي لقائه مع عدد من سفراء الدول الغربية في أكتوبر 2023، قال: “نحن نحارب ليس فقط من أجل إسرائيل، بل من أجل الغرب بأكمله، ضد قوى الظلام والهمجية”.
لكن هذا القناع سرعان ما سقط مع اندلاع الحرب الشرسة على غزة، والتي كشفت عن الوجه الحقيقي للصهيونية، كحركة استيطانية إحلالية تستبطن أعمق معاني الفاشية والعنصرية والكراهية. فمنذ بداية العدوان، لم تترك آلة الحرب الصهيونية شيئًا إلا استهدفته: الأطفال، والنساء، والمستشفيات، والمدارس، وحتى قوافل الإغاثة الإنسانية. بحسب تقارير منظمة العفو الدولية (Amnesty International) في ديسمبر 2023، فإن: “القصف الإسرائيلي لغزة يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، ويصل إلى حد جرائم الحرب من حيث التدمير العشوائي والقتل الجماعي للمدنيين”.
هذه الوحشية ليست طارئة، بل هي متأصلة في المشروع الصهيوني ذاته، الذي قام منذ البداية على فكرة الإحلال، أي محو السكان الأصليين، الفلسطينيين، واستبدالهم بجماعات يهودية مهاجرة. كما كتب المؤرخ الإسرائيلي “إيلان بابه” في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” (The Ethnic Cleansing of Palestine):
“لم يكن تهجير الفلسطينيين في عام 1948 نتيجة حرب عرضية، بل كان خطة ممنهجة لتفريغ البلاد من أهلها الأصليين، وهي جوهر المشروع الصهيوني نفسه.”
إنها ليست مجرد دولة استعمار، بل هي أعلى مراحل الاستعمار، إذ تدمج بين وحشية الفعل الاستيطاني وبين شرعية زائفة تُغلفها شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويمكن القول إن الصهيونية، في صيغتها المتطرفة الحالية، تمثل تلاقيًا مريعًا بين الاستعمار القديم المبني على الاحتلال، وبين الإمبريالية الحديثة التي توظف أدوات الإعلام والدبلوماسية والاقتصاد لخدمة مشروعها الإقصائي. وهو ما يُشبّهه المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” حين قال:
“الصهيونية ليست فقط استعمارًا أوروبيًا، بل استعمار أوروبي تمت شرعنته من خلال خطاب ليبرالي استعلائي جعل الضحية تبدو وكأنها الجاني.”
(Culture and Imperialism, Edward Said, 1993)
إن ما تفعله “إسرائيل” اليوم في غزة، وما تمارسه منذ عقود في الضفة والقدس والداخل الفلسطيني، لا يختلف كثيرًا عما فعله الاستعمار الفرنسي في الجزائر، أو البريطاني في كينيا، بل يفوقه في بعض الحالات من حيث الشراسة والتجرد من أدنى القيم الإنسانية. وقد أشار تقرير صادر عن مجموعة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في فبراير 2024 إلى أن:
“الحرب على غزة تكشف عن بنية فصل عنصري ممنهجة، تتجاوز في بعض أوجهها ممارسات نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا.”
لكن الأخطر من ذلك أن هذا الاحتلال يحظى بدعم غير مشروط من القوى الإمبريالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي ما زالت توفر له الغطاء السياسي والعسكري، في تأكيد جديد على تواطؤ المنظومة الغربية في الجريمة، بل وشراكتها فيها.
لقد سقطت أقنعة “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، وتعرّى المشروع الصهيوني أمام العالم، ليظهر على حقيقته: مشروع فاشي استيطاني دموي، ينهل من تاريخ طويل من العنصرية والكراهية والاقتلاع، ولا يمكن إصلاحه أو تقويمه، بل لا بد من تفكيكه ومحاسبته، كما فُكك نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وكما هُزم الاستعمار في كل مكان.
⸻
مراجع مختارة:
1.إيلان بابه، التطهير العرقي في فلسطين، 2006.
2.إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، 1993.
3.تقارير منظمة العفو الدولية، ديسمبر 2023.
4.بيانات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فبراير 2024.
5.خطاب نتنياهو أمام السفراء الغربيين، أكتوبر 2023.