أقلام و آراء
إرشيدات يكتب : إحلال العمالة الأردنية في سوق العمل رؤية استراتيجية نحو تمكين الشباب وتطوير الاقتصاد

بقلم: الدكتور صالح إرشيدات
مقدمة
في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها الأردن، أصبح ملف العمالة الوافدة وإحلال العمالة الأردنية في سوق العمل محورًا أساسيًا للنقاشات والسياسات الحكومية. فمع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الأردني، تأتي الحاجة الماسة إلى وضع استراتيجيات شاملة تضمن تأهيل القوى العاملة المحلية، وتوفير فرص عمل مستدامة، وتقليل الاعتماد على العمالة الوافدة.
تتضمن هذه الرؤية الطموحة عدة محاور، من بينها تطوير برامج تدريبية متقدمة، وضبط سوق العمل من خلال تصاريح العمل، وإنشاء صندوق دعم مستدام، وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص. كما يحظى هذا التوجه بعناية خاصة من سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، الذي يؤكد باستمرار أهمية خلق فرص عمل كريمة ومستدامة للشباب الأردني.
الواقع الحالي لسوق العمل الأردني: تحديات وفرص
يعاني سوق العمل الأردني من تحديات كبيرة، لعل أبرزها ارتفاع معدل البطالة الذي تجاوز 22% في السنوات الأخيرة، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب إلى أكثر من 40%. في المقابل، هناك اعتماد واسع على العمالة الوافدة، حيث يبلغ عدد التصاريح السارية للعمالة غير الأردنية أكثر من 278 ألف تصريح، مما يشير إلى فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
يتركز معظم العمال الوافدين في قطاعات مثل الزراعة، والإنشاءات، والصناعة، والخدمات، وهي قطاعات تعاني من عزوف الشباب الأردني عنها لأسباب تتعلق بثقافة العمل، وضعف الحوافز، ونقص برامج التدريب المتخصصة.
تصاريح العمل الزراعية: من الفوضى إلى الضبط
لطالما كانت تصاريح العمل الزراعية في الأردن تُستخدم بطرق غير منضبطة، حيث كان العديد من العمال الوافدين يحصلون على تصاريح للعمل في الزراعة، لكنهم ينتقلون بعد ذلك إلى قطاعات أخرى، مما أدى إلى تشويه بيانات سوق العمل وتسرب العمالة إلى مجالات غير مخصصة لهم.
في السنوات الأخيرة، أدركت الحكومة خطورة هذه الظاهرة، واتخذت وزارةالعمل ووزيرها الحالي البكار إجراءات صارمة لضبط ملف العمالة الوافدة لضبط إصدار تصاريح العمل الزراعية، حيث تم وضع قيود أكثر صرامة على منح التصاريح، وفرض آليات متابعة دقيقة لضمان بقاء العمال في القطاع الذي تم التصريح لهم به. كما تم رفع تكلفة تصاريح العمل للحد من التجاوزات، وتكثيف الحملات التفتيشية لضبط العمالة المخالفة.
تطوير برامج تدريبية متخصصة: الحل المستدام لمشكلة البطالة
لا يمكن الحديث عن إحلال العمالة الأردنية دون التركيز على التدريب والتأهيل. فالاقتصادات الناجحة عالميًا تعتمد على تطوير مهارات القوى العاملة المحلية، وربطها باحتياجات سوق العمل الفعلية.
في هذا السياق، تم إطلاق عدة مبادرات وطنية تهدف إلى تدريب وتأهيل الشباب الأردني في مجالات تتطلبها السوق، مثل الصناعات التحويلية، والتكنولوجيا، والخدمات اللوجستية، والزراعة الحديثة. ومن أبرز هذه المبادرات:
•مراكز التميز المهني، والتي تقدم برامج تدريبية متخصصة تستهدف رفع كفاءة الشباب وتزويدهم بالمهارات المطلوبة لسوق العمل المحلي والدولي.
•إدخال نظام التدريب القائم على الشراكة مع القطاع الخاص، بحيث يتم تدريب الشباب داخل المصانع والشركات قبل التوظيف، مما يزيد من فرص نجاحهم في سوق العمل.
•تعزيز التعليم التقني والمهني، عبر تطوير المناهج وتوفير بيئات تدريبية حديثة تتماشى مع تطورات التكنولوجيا والصناعة.
إنشاء صندوق دعم مستدام للتوظيف والتدريب
لضمان استمرار هذه الجهود، هناك حاجة ملحة لإنشاء صندوق دعم مستدام يتم تمويله من عدة مصادر، مثل:
•نسبة من عوائد تصاريح العمل للعمالة الوافدة.
•مساهمات من القطاع الخاص، حيث تستفيد الشركات من العمالة المدربة بشكل مباشر.
•دعم حكومي ومنح دولية، لتمويل برامج التدريب والتأهيل والتوظيف.
يمكن لهذا الصندوق أن يوفر منحًا وقروضًا ميسرة للشباب الراغبين في تأسيس مشاريع صغيرة ومتوسطة، مما يسهم في خلق فرص عمل جديدة وتقليل البطالة. كما يمكن استخدامه لدعم رواد الأعمال وتقديم حوافز للشركات التي توظف الشباب الأردني.
أهمية الشراكة مع القطاع الخاص في إنجاح هذه الرؤية
إحلال العمالة الأردنية في سوق العمل لا يمكن تحقيقه بمعزل عن القطاع الخاص، فهو المشغل الرئيسي للعمالة، وله دور محوري في تحديد المهارات المطلوبة. لذا، فإن تعزيز التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص من خلال مجالس المهارات القطاعية، والتشجيع على تبني سياسات توظيف عادلة، وتقديم حوافز للشركات التي توظف العمالة المحلية، يمثل خطوة رئيسية نحو تحقيق الأهداف المرجوة.
رؤية ولي العهد: توظيف الشباب الأردني بافتخار
يحظى ملف التشغيل والتوظيف باهتمام خاص من سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، الذي يؤكد مرارًا وتكرارًا على أهمية تمكين الشباب الأردني وتعزيز قدراتهم لسد الفجوة في سوق العمل.
انطلاقًا من رؤيته، تم إطلاق العديد من المبادرات التي تهدف إلى دعم التوظيف، مثل برنامج “خريجي التقنية”، الذي يهدف إلى تأهيل الشباب في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، ومبادرات مؤسسة ولي العهد التي تعزز من فرص الشباب في ريادة الأعمال والعمل المهني والتقني.
يعكس اهتمام سموه التزامًا واضحًا بتحويل التحديات إلى فرص، وتشجيع الشباب على الانخراط في سوق العمل بمهنية وكفاءة، بعيدًا عن الاعتماد على العمالة الوافدة.
نماذج نجاح ملهمة في السوق الأردني
رغم التحديات، هناك العديد من قصص النجاح التي تعكس قدرة الشباب الأردني على إثبات نفسه في سوق العمل.
•التجربة في قطاع التعدين: من خلال شراكات بين الحكومة وشركات كبرى مثل شركة الفوسفات، تم إنشاء أكاديميات تدريبية متخصصة تهدف إلى تأهيل الشباب للعمل في قطاع التعدين، مما ساعد في تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة.
•أكاديميات التدريب المصرفي: بالتعاون مع جمعية البنوك، يتم حاليًا الإعداد لإنشاء أكاديمية تدريبية متخصصة في قطاع المصارف، لتمكين الشباب الأردني من العمل في هذا القطاع الحيوي.
•النجاح في قطاع الصناعات الغذائية: من خلال برامج التدريب والتوظيف، تم تأهيل مئات الشباب الأردنيين للعمل في مصانع المواد الغذائية، حيث تمكنوا من تحسين مهاراتهم والحصول على وظائف مستقرة.
التوصيات: خارطة طريق لمستقبل أكثر إشراقًا
1.تعزيز التعليم والتدريب المهني والتقني، وربطه مباشرة باحتياجات سوق العمل.
2.إطلاق صندوق دعم مستدام للتوظيف والتدريب، لتمويل برامج التدريب ومساعدة الشباب في تأسيس مشاريعهم الخاصة.
3.تشديد الرقابة على تصاريح العمل، لمنع تسرب العمالة الوافدة وضمان تنظيم السوق.
4.توفير حوافز للشركات التي تساهم في تدريب وتوظيف العمالة المحلية، مثل الإعفاءات الضريبية والدعم المالي.
5.توعية الشباب بأهمية المهن التقنية والمهنية، وتغيير الثقافة المجتمعية حول بعض الوظائف التي تعتبرها الفئات الشابة غير مناسبة.
خاتمة
يمثل إحلال العمالة الأردنية في سوق العمل خطوة ضرورية نحو تعزيز الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية المستدامة. ومن خلال التكامل بين الحكومة، والقطاع الخاص، وبرامج التدريب الحديثة، والدعم المباشر للشباب، يمكن للأردن أن يكون نموذجًا ناجحًا في تطوير سوق العمل وتمكين الشباب من العمل بافتخار وكفاءة.