النائب الشطناوي: الأردن بين الثوابت والمستقبل: قراءة تحليلية في خطاب جلالة الملك في افتتاح الدورة العادية لمجلس الأمة العشرين

في لحظة وطنية فارقة، ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني خطاب العرش السامي في افتتاح الدورة العادية لمجلس الأمة العشرين، حيث قدّم الخطاب رؤية شاملة للمسارات الثلاثة: السياسي والاقتصادي والإداري، في سياق هوية وطنية راسخة وتطلعات مستقبلية طموحة، فهذا الخطاب الذي تجاوز فكرة التوجيهات السياسية، ليعكس رؤية ملكية متوازنة تجمع بين التحديث والاعتزاز بالإرث الوطني، حيث جاء مقسما على عدة محاور أساسية سنتطرق للنظر إلى مفرداتها من خلال قراءتها وتحليل مضامينها.
المسار السياسي: نحو ديمقراطية برامجية
يؤكد خطاب الملك على عملية التحديث السياسي بوصفها رؤية ديمقراطية تجمع بين التشاركية والبرامجية من خلال قوله: “هذا المجلس يشكل بداية لتطبيق مشروع التحديث السياسي، في مسار يعزز دور الأحزاب البرامجية، ومشاركة المرأة والشباب.”
فهذه العبارة تتجاوز حدود التصريح السياسي لتعبر عن رؤية فلسفية تُعيد تعريف الديمقراطية كعملية تنموية متكاملة، وهنا يُبرز خطاب الملك أهمية الانتقال من السياسة التقليدية القائمة على الأفراد إلى السياسة البرامجية التي تتمحور حول الأفكار والحلول العملية.
لكن تحقيق هذه الرؤية يواجه تحديات جوهرية، أبرزها ضعف الثقافة الحزبية في المجتمع الأردني، حيث لا تزال الأحزاب تعاني من افتقارها للثقة الشعبية والبنية التنظيمية القوية، لذلك لا بد من بذل جهود حثيثة في مجال التوعية السياسية، سواء عبر وسائل الإعلام أو المناهج التعليمية، لترسيخ أهمية العمل الحزبي كركيزة أساسية لتحقيق الديمقراطية البرامجية.
ومن جهة أخرى، يشير خطاب الملك إلى أهمية إشراك المرأة والشباب في العملية السياسية، في خطوة تعكس وعيًا عميقًا بديناميكيات العصر، فالتحول السياسي لا يمكن أن يكون حقيقيًا دون استثمار طاقات الأجيال الجديدة وتمكينها من المشاركة الفاعلة، ومع ذلك يتطلب هذا التوجه معالجة عوائق اجتماعية وثقافية قد تعيق انخراط هاتين الفئتين في الحياة السياسية، مثل بعض المفاهيم التقليدية والهيمنة الذكورية في بعض الأوساط.

المسار الاقتصادي: الإنسان محور التنمية
الاقتصاد كان المحور الثاني في خطاب الملك، حيث ينتقل إلى رؤية التحديث الاقتصادي كقيمة تحقق الكرامة الإنسانية بوصفها غاية التنمية وبدا ذلك ملموسا في قوله: “هدفنا توفير الحياة الكريمة وتمكين الشباب وإعدادهم لوظائف المستقبل، وعلينا مواصلة تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي لإطلاق إمكانات الاقتصاد الوطني.”
وبالنظر إلى هذه العبارة فإننا نستطيع إدراك مفهوم الكرامة الإنسانية الذي أبرزه جلالته، حيث يصبح الاقتصاد وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتمكين الأفراد من تحقيق ذواتهم، فهذه الرؤية تتجاوز الأرقام والنمو الاقتصادي المجرد لتضع الإنسان في صلب العملية التنموية.
ويتطلب “إعداد الشباب لوظائف المستقبل” إصلاحات شاملة في النظام التعليمي، بما في ذلك تعزيز التعليم المهني والتقني، وإدخال التقنيات الحديثة في المناهج الدراسية، وربطها بمتطلبات سوق العمل، كما أن توفير “الحياة الكريمة” يحتاج إلى سياسات اقتصادية جريئة، مثل دعم ريادة الأعمال، وتوفير بيئة استثمارية مستقرة، وتشجيع الابتكار.
ومن التحديات التي تواجه هذه الرؤية، الاعتماد على المساعدات الخارجية في تمويل بعض المشاريع الاقتصادية، مما قد يُقيد قدرة الأردن على تنفيذ خطط مستقلة طويلة المدى، لذا من الضروري تعزيز الاعتماد على الذات من خلال استراتيجيات تُركز على تحسين الإنتاج المحلي وتنويع مصادر الدخل.
الدور الرقابي: مسؤولية وطنية وأخلاقية
يشدد خطاب الملك على الدور الرقابي لمجلس الأمة بشقيه، النواب والأعيان، قائلًا: “وعليكم، نوابا وأعيانا، واجب الرقابة من أجل ضمان تنفيذ مسارات التحديث، فلا خيار أمامنا سوى التقدم لخدمة أجيال الأردن ومستقبله.”
ويأتي هذا التوجه من التزام جلالته بمبدأ الفصل بين السلطات وتفعيل دور مجلس الأمة في الرقابة على الأداء الحكومي، والرقابة هنا مسؤولية وطنية وأخلاقية لضمان أن جهود التحديث السياسي والاقتصادي والإداري تُترجم إلى نتائج ملموسة بالإضافة إلى كونها أداة للتأكد من تنفيذ السياسات.
كما يشير خطاب الملك بوضوح إلى أن هذا الواجب الرقابي لا يجب أن يكون تقليديًا، قائمًا على النقد دون طرح بدائل، بل هو دعوة لتحويل الرقابة إلى عمل تشاركي ديناميكي يعزز المساءلة ويدعم الأداء، هذا الطرح ينطوي على رؤية توازنية بين النقد البناء والتعاون، وهي رؤية تُحمّل النواب والأعيان مسؤولية تتجاوز الأطر الشكلية إلى العمل الحقيقي لخدمة الأجيال المقبلة.
فرغم وضوح التوجه الملكي، إلا أن الواقع يشير إلى وجود تحديات تواجه الدور الرقابي في الأردن، ففي العديد من الأحيان، تتحول الرقابة البرلمانية إلى ممارسة رمزية تفتقر إلى أدوات المساءلة الحقيقية، سواء بسبب نقص الكفاءات البرلمانية أو غياب الشفافية الحكومية، كما أن التعاون الوثيق بين البرلمان والحكومة الذي أشار إليه جلالة الملك قد يُساء فهمه أحيانًا كمحاباة أو تداخل يضعف الدور الرقابي، خاصة في بيئة سياسية قد تتسم أحيانًا بالمحاباة السياسية.
ولكي تتحقق هذه الرؤية الملكية بشكل فاعل، يتطلب الأمر إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات الرقابية، فالرقابة يجب أن تُمارس بشفافية عالية تُظهر للمواطنين أن النواب والأعيان يعملون لصالح الشعب وليس لصالح أجندات حزبية أو مصالح شخصية، كما أننا بحاجة إلى تعزيز الكفاءات البرلمانية، فالبرلمان يحتاج إلى استثمار أكبر في تطوير مهارات أعضائه ليكونوا قادرين على تحليل السياسات وتقييمها بعمق، ولاشك أننا بحاجة إلى آليات رقابية متقدمة لتفعيل الدور الرقابي كاستخدام التكنولوجيا الحديثة في متابعة تنفيذ الخطط والمشاريع، مثل إنشاء بوابة إلكترونية تُتيح للبرلمان والمواطنين متابعة مسارات التحديث بشكل مباشر.
والرقابة كدور برلماني لا تنحصر في كونها وسيلة لتصحيح الأخطاء، بل أداة لتحفيز التغيير الإيجابي وضمان تحقيق العدالة والإنصاف، حيث تُعزز الرقابة من نزاهة العمل الحكومي وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم، فالتوجيه الملكي هنا يدعو لتأسيس نموذج جديد من الرقابة البرلمانية، رقابة تسعى إلى تعزيز الاستدامة، وضمان أن مسارات التحديث ليست مجرد رؤى على الورق، بل أدوات للتغيير الحقيقي الذي يخدم الأجيال الحالية والمستقبلية.
الهوية الوطنية والوصاية الهاشمية: ثوابت راسخة
وأكد خطاب الملك على الهوية الوطنية في قوله: “نحن دولة راسخة الهوية، لا تغامر في مستقبلها وتحافظ على إرثها الهاشمي وانتمائها العربي والإنساني.”
وهذه العبارة تعكس رؤية جلالته بأن الهوية الوطنية ليست حالة جامدة، بل منظومة متكاملة تجمع بين الثوابت التاريخية والانفتاح على المتغيرات، والهوية هنا لا تنحصر في الانتماء الجغرافي أو العرقي، بل هي إطار يعكس رؤية الأردن للعالم، حيث تُبنى السياسات على مبدأ التوازن بين الإرث التاريخي والتكيف مع المستقبل، ورؤية جلالته للهوية الأردنية بوصفها “راسخة” تؤكد على قوتها وصلابتها في مواجهة التحديات، دون أن يعني ذلك الجمود أو الانغلاق، فالهوية الأردنية تحمل بعدا ديناميكيا كما يتضح من الخطاب، وتتمتع بمرونة تجعلها قادرة على مواجهة تأثيرات العولمة والانقسامات الإقليمية، مع الحفاظ على طابعها الفريد، والرسالة الأبرز تتجلى في أن الثبات في الهوية لا يعني الانعزال عن العالم، بل على العكس، هو قاعدة للتفاعل الإيجابي مع المتغيرات، وهذا التوازن بين الثبات والانفتاح يُبرز فلسفة الأردن التي تجمع بين الجذور والآفاق، حيث تظل القيم الوطنية والإرث الهاشمي عماد الهوية، بينما يُفتح المجال للأردن ليكون جزءًا فاعلًا في النظام العالمي.
ولا شك أن الأردن يواجه تحديات جسيمة في الحفاظ على هويته، وخطاب الملك يُبرز أن هذا التحدي يتطلب تعزيز قيم المواطنة التي تجعل المواطن الأردني يدرك أهمية الانتماء إلى وطنه، ليس فقط من خلال الشعارات، بل من خلال سياسات تعكس العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص، بالإضافة إلى التنمية الثقافية التي تؤكد على التمسك بالإرث الثقافي الأردني والعربي في مواجهة التغيرات العالمية، مع دمجه برؤية مستقبلية تعزز قدرة الأردنيين على المشاركة الفاعلة في العالم الحديث، بالإضافة إلى الوحدة الوطنية وهذه رسالة أخرى تدعو إلى مواجهة أي مظاهر للانقسام الداخلي، حيث تصبح الوحدة الوطنية حاجزًا ضد أي تأثيرات خارجية قد تهدد الاستقرار.
كما أن هذه العبارة تحمل رسالة دبلوماسية قوية وواضحة للمجتمع الدولي في قول جلالته “لا تغامر في مستقبلها” وهنا تتجلى سياسة الأردن الحذرة والمدروسة، حيث يرفض الأردن الدخول في مغامرات سياسية أو تحالفات قد تعرض أمنه وهويته للخطر، ومجمل ذلك يتلخص في أن الأردن رغم انفتاحه وعلاقاته الإقليمية والدولية، فإنه يتمسك بثوابته ولا يقبل بأي ضغوط سواء داخلية أو خارجية قد تتعارض مع مصالحه الوطنية أو تمس بسيادته.
ويؤكد خطاب الملك هذه العبارة على الوصاية الهاشمية بوصفها التزاما دينيا وتاريخيا، ويتعدى ذلك إلى اعتبارها جزءا لا يتجزأ من هوية الأردن، وهذه الوصاية تُبرز الأردن كحامٍ للحقوق العربية والإسلامية في القدس، مما يضيف بُعدًا سياسيًا ودبلوماسيًا لمكانة المملكة.
ومن منظور آخر، فإن الوصاية الهاشمية قضية متعلقة بالسيادة، وانعكاس للرؤية الأردنية التي ترى في العدل والكرامة الإنسانية أساسًا لأي دور دولي، وتمسك الأردن بهذه المسؤولية هو تأكيد على الثقة بالسياسة الخارجية التي يقودها الملك بنفسه، وعلى مكانة الأردن كدولة صغيرة جغرافيًا، لكنها كبيرة بمبادئها وأدوارها.
والرسالة الأعمق في هذه العبارة هي أن الهوية ليست فقط ما نرثه، بل ما نصنعه، فالأردن الذي يلتزم بإرثه الهاشمي وانتمائه العربي والإنساني، قادر على تحويل هذا الالتزام إلى أساس لبناء مستقبل يوازن بين الداخل والخارج، بين القيم التقليدية ومتطلبات الانفتاح على الواقع والعالم.
القضية الفلسطينية: التزام إنساني وأخلاقي
يتطرق خطاب الملك إلى القضية الفلسطينية بقوله: “السلام العادل والمشرف هو السبيل لرفع الظلم التاريخي عن الأشقاء الفلسطينيين.”
وهنا يضع جلالته القضية الفلسطينية في إطارها الإنساني والأخلاقي، بعيدًا عن الحسابات السياسية الضيقة، فالسلام هنا يتجاوز الغاية السياسية، ليتحول إلى عملية تهدف إلى تحقيق العدالة وإنهاء الظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني، لكن هذا الالتزام الأخلاقي يتطلب مواجهة التحديات الدولية والإقليمية التي تعرقل تحقيق السلام، وهنا تظهر أهمية الدور الأردني في العمل كوسيط يسعى لتحقيق التوازن بين الحقوق الفلسطينية والمصالح الإقليمية، خاصة في ظل الانقسامات العربية وضعف المواقف الدولية.
وفي سياق التضامن الإنساني يُشيد خطاب الملك بجهود الأردنيين بقوله: “لقد قدم الأردن جهودًا جبارة ووقف أبناؤه وبناته بكل ضمير يعالجون الجرحى في أصعب الظروف.”
فهذه العبارة تعكس رؤية ترى في العمل الإنساني جزءًا من هوية الدولة الأردنية، فالأردن الذي يحمل عبء الأزمات الإنسانية الإقليمية، يبرز هنا كنموذج للدولة التي تقدم المساعدة دون تمييز، مسهمًا في تخفيف معاناة الشعوب المجاورة، مشيدا بالدور الذي قامت به القوات المسلحة الأردنية والأجهزة الأمنية في إيصال المساعدات الإنسانية لأشقائنا في غزة والضفة الغربية، والدور الذي تقوم به المستشفيات الميدانية التي أنشأتها الخدمات الطبية الملكية بتوجيه ملكي في غزة والضفة الغربية.

ختاما: الأردن بين الجذور والطموحات
ويختتم جلالته خطابه بقوله: “سنواصل البناء وسيكتب الأردن فصولًا جديدة في مسيرته التي ستبقى مسيرة أغلى ما فيها الإنسان.”
وهذا التصريح يمثل خلاصة الرؤية الملكية التي تسعى نحو بناء دولة ترتكز على الإنسان كغاية ووسيلة، تجمع بين إرثها التاريخي وطموحاتها المستقبلية، وهذا يحيلنا إلى مقولة الحسين طيب الله ثراه “الإنسان أغلى ما نملك” ويؤكد على تمسك جلالته بالقيم البنائية التي قامت عليها الدولة الأردنية والتي رسمها الهاشميون خلال مسيرتهم التي امتدت لقرن من الزمن على هذه الأرض المباركة، وهذا تأكيد على أن النهج الهاشمي ثابت لا يتغير ولا تعصف به التحديات مهما كانت جساما.

النائب الدكتور شاهر شطناوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى