ما مستقبل الشرق الاوسط بعد الصراعات التي لم تخمد بعد؟
كريستين حنا نصر
لا أريد أن أعود الى الوراء وتحديداً الماضي التاريخي الذي كانت عليه المنطقة، وهو تنوع الحضارات فيها، بما فيها حضارة العراق القديم أو بلاد ما بين النهرين” ميزوبوثاميا”، والعصر الذهبي للدولة الاموية وعاصمتها العريقة التي هي اليوم تعاني من صراع محتدم وطائفية وهيمنة واضحة للفرس عليها ومحاولات تشييع سكانها ، الى جانب ملامح التغيير الديمغرافي الجاري فيها، وما أريد استخلاصه هو أن الشرق الاوسط الآن لم يعد مستقبله وتحولاته مرتبطة بالماضي العريق، بقدر ارتباطه بما يجري اليوم من صراع مشتعل سوف يؤثر على موازين القوى الحالية والمستقبلية، وبالتالي من يسيطر على المنطقة ويبسط نفوذه عليها ويحدد مستقبل الشرق الاوسط الجديد، فهل هم أهل المنطقة العربية أو غيرهم من القوى المستعمرة؟، أم ستكون عرضة لمساعي اسرائيل لتوسيع حدودها؟، أم أن الهيمنة الايرانية هي القادمة ليس فقط محدودة ومقتصرة على العواصم العربية بل توسع شامل لنفوذها، وبحجة نصرة الشعب الفلسطيني ودعم المقاومة؟، أم سيكون المستقبل متصل بالهيمنة الامريكية على بعض الدول العربية وبسطها للديمقراطية الجديدة والمساهمة في التطور الاقتصادي على غرار التنمية في الامارات العربية وتحديداً إمارة دبي.
والسؤال الاستشرافي الهام، هو ما مستقبل سوريا التي تعاني من صراع طائفي وعرقي وهيمنة دول خارجية في سيادتها وعلى اراضيها، ومؤشرات خطر التقسيم لجغرافيتها، فهل نشهد دول أخرى جديدة لربما متصل تاريخ بعضها بحضارات قديمة كانت تحكم المنطقة سابقاً، مما قد يجعلنا أمام تغير في واقع حدود الدول الحالية بما في ذلك انكماش أو تقليص في حدود بعضها من قبل القوى المهيمنة، كل المؤشرات الحالية ودون شك تدل على وجود تغير بعد هذا المخاض، ولكن ما يهمنا هل سيكون الشرق الاوسط الجديد أفضل لهذه الشعوب التي ذاقت ذرعاً من الحروب الدامية، على مدى عقود شهدت خلالها صراعات طائفية وعرقية أحدثت دمار هائل وجوع وقتل، وتغييرات ديمغرافية في مناطق الاقتتال، فهناك قوى خارجية تبسط هيمنتها على دول عربية بهدف سلب خيراتها ، بينما دول نفطية تعيش شعوبها تحت خط الفقر ولا يُعرف مصير أموالها المتأتية من ايرادات مواردها، ويعاني اقتصادها الكثير من التحديات كما هو حال في العراق وسوريا.
ولتحديد ملامح مستقبل الشرق الأوسط يجب تحليل واقع كل دولة، وخاصيتها التي تختلف عن غيرها، فعند الحديث عن لبنان والتي كانت تسمى باريس الشرق كناية عن تطورها الاقتصادي، نجد أن الوضع فيها اليوم مؤلم خاصة بعد الحرب الأهلية وتدهور اقتصادها وهيمنة الاحزاب الدينية عليها عبر عدة مراحل، واخرها هيمنة حزب الله على سيادة الدولة اللبنانية، بما في ذلك اتخاذ قرار الحرب نيابة عن الدولة، ولبنان اليوم تعيش بدون رئيس ومليشيات الحزب تهيمن على مفاصل الدولة ، وكل القررات تتخذ من قبله بمعزل عن ارادة الدولة، وطبعاً تتخذ القررات بحجة نصرة المقاومة واسناد المقاومة الفلسطينية ونصرة غزة ووحدة الساحات، ولا يخفى أن الهيمنة والتوجيهات الايرانية لها دورها في القرارات في لبنان، وبتوجيه من الولي الفقيه والحرس الثوري الذي يدعم قدرات حزب الله، وبعد قضاء اسرائيل على القدرة العسكرية للحزب وقتل معظم قيادة الصف الأول للحزب ووحدة الرضوان، واغتيال الشهيد السيد حسن نصر الله ومن خلفه من القادة، وللاسف بعد هذه التطورات الكل كان يأمل بأن تكون الظروف مهيأة لنفض غبار الهيمنة الايرانية عن لبنان، وانتخاب رئيس جديد للدولة وبشكل توافقي، ولكن مع واقع اضعاف حزب الله الا انه للان لم يتمكن لبنان من لملمة صفوفه بعد، خاصة مع استبدال هذا الضعف بزيادة نفوذ الحرس الثوري الايراني ومؤخراً زيارة وزير الخارجية الايرانية عباس عراقجي والتي على ما يبدو كان لها دور في عرقلة الاتجاه نحو تنفيذ القرار الاممي (1701)، وانتخاب رئيس للبلاد، فالوضع المتازم بين اسرائيل وحزب الله الذي تطور وشمل تدمير الضاحية الجنوبية وتهجير شعبها الذي نزح الى جبل لبنان وباعداد بلغت حوالي مليون شخص حتى الآن، لاجئين في الكنائس وكل مكان، فماذا قدمت ايران والمقاومة لشعب الضاحية الجنوبية المشرد ؟، أم أن ما يلوح في الأفق مجرد شعارات وفي الواقع شعب مشرد يعاني الجراح والجوع والدمار والقتل، بما في ذلك تهجيرهم الى سوريا، واقع لبناني يشهد هيمنة ايرانية للاسف وتعطيل اي تقدم سياسي داخلي، ومقابل الهيمنة الخارجية على قرارات لبنان فان اسرائيل وبسبب الصراع مع حزب الله وحماية لحدودها تبادلت القصف مع الحزب ومؤخراً قامت باجتياح بري لجنوب لبنان وبشكل توسع فيه القصف خارج منطقة جنوب لبنان ليشمل لبنان كلها ، وحتى اليوم يظهر نائب أمين عام حزب الله وللمرة الثالثة خلال أسابيع ( أمين قاسم) واطلالته الاخيرة افضل من السابقة، حيث كان جلوسه ومن خلفه العلم اللبناني وعلم حزب الله وصورة الشهيد نصر الله خلفه أيضاً، وهذا يطرح سؤال حول دلالات ظهور العلم اللبناني خلفه للمرة الاولى، فهل يعني ذلك انه اقتنع بضرورة العودة الى حضن الدولة اللبنانية بدلاً عن حضن ايران؟ وللاجابة عن السؤال وبالعودة للواقع نستشعر انه وللاسف تتزايد الهيمنة الايرانية، وتسيطر على القرارات وتحديد مستقبل لبنان السياسي والعسكري، والشعب اللبناني ما زال يعاني القتل والدمار، مقابل احتمالية قيام اسرائيل بالتقدم نحو الليطاني وربما اجتياح لبنان بالكامل بما في ذلك العاصمة بيروت، فاي مستقبل ينتظر لبنان، والدولة لا تملك قراراها وسيادتها وتعاني التدهور الاقتصادي وشعبها مشرد ونازح تحت القصف المتبادل بين اسرائيل وحزب الله ومن خلفه الحرس الثوري، فالمستقبل وبكل اسف اسود ولا يوجد اي بارقة آمل لباريس الشرق التي أصبحت طهران الشرق!.
أما فيما يخص غزة والشعب الفلسطيني، فقد بدأت عملية طوفان الاقصى في السابع من اكتوبر وكأنها بارقة أمل للمقاومة ممثلة بحماس من أجل غزة، لتلوح في الافق نشوة انتصار على الجيش الاسرائيلي، ولكن يجب أن ننظر إلى النتائج الميدانية الحالية والتي ادت الى حرب طاحنة وصراع دام اكثر من سنة وما يزال مستمراً، ومعه تستمر معاناة الشعب الفلسطيني في غزة والذي ذاق ذرعاً من القصف المتبادل والقتل والجوع والتشريد والتهجير، وعجز حماس عن تقديم ملاجىء لشعبها، وفي وقت لابد فيه من الاشادة بالجهود المباركة للملكة الاردنية الهاشمية في ارسال المساعدات من أجل غزة والشعب الفلسطيني، وانشاء عدة مستشفيات ميدانية عسكرية اردنية لاغاثة الجرحى.
إن وضع غزة للاسف قبل السابع من اكتوبر كان افضل حالاً عن اليوم بالرغم من التضييق والحصار الذي كان مفروضاً عليهم، فعمال غزة سابقاً كان يعمل معظمهم في سوق العمل الاسرائيلي، ويحصلون على دخل مالي يساهم في توفير حياة كريمة، والانفاق بين غزة ومصر توصل لهم البضائع والاحتياجات، واليوم غزة مدمرة وارتقى منها الالاف من الشهداء والجرحى وشبه مهددة بالزوال والابادة اذا استمر الصراع على حاله، فما المستقبل الذي ينتظر غزة بعد كل هذا الدمار ؟ اعتقد انه مستقبل ملطخ بالقتل والدماء والجوع، فماذا كسبت الشعوب من هذا الصراع المشتعل دون توقف؟، واقع صعب ما بين حلول سياسية مقترحة وهدنة واجتماعات هنا وهناك، وقرارات أممية وتنديد بالحرب على غزة ومساعي لوقفها دون نتيجة، والشعب الفلسطيني في غزة تدمر بيوته ومؤسساته ويقتل شهيداً باعداد تتزايد يومياً، فأي مستقبل مشرق قد نتحدث عنه للأسف؟
وفيما يتصل بسوريا، فالدولة السورية وحزبها الحاكم والتحالف القائم مع حزب الله وايران ، وفي وقت لا تملك فيه سوريا العودة الى الحضن العربي حتى الآن، فالماضي العريق لسوريا وجذوره السريانية وعصر الدولة الأموية للاسف لم يعد كله موجوداً، في واقع معقد بعد حرب دامت 12 عاماً ومستمرة وتتضح فيها الهيمنة الفارسية وتواجد لحزب الله والمليشيات الايرانية، لتتحول الدولة السورية من تاريخ قديم يشتهر بالتجارة منذ 10 الاف سنة، ليقتصر الان على تجارة المخدرات مع بعض الدول المجاورة لضمان دعم اقتصادها المتهالك بسبب الحرب الدائرة، هناك حالة من شح المياه وانعدام للخدمات الاساسية مثل الكهرباء، الى جانب القتل والدمار الكبير، والانقسامات الجغرافية بما في ذلك الواقع الديمغرافي في بعض مناطق الشمال الغربي السوري والاحتلال التركي مثل عفرين وجرابلس والباب التي تدار من والي تركي معين عليها، والشمال الشرقي الذي اقيمت فيه ما يسمى بالخلافة الاسلامية وتحديداً في الرقة، وتواجد الدواعش فيها ومطالبة السكان الولايات المتحدة الامريكية المساعدة في التخلص من داعش وتحرير الرقة واستعادة السيادة على المنطقة، من قبل جيش سوريا الديمقراطية والذي ما يزال يحمي المنطقة ويديرها بممثلية ادارة ذاتية تسيطر على الشمال الشرقي لسوريا، كما شهدت سوريا التدخل الروسي والذي جاء بناء على طلب من الدولة السورية ضد المعارضة السورية التي كانت على وشك أن تسيطر على الشام، وبالطبع إلى جانبه مساندة ايران وحزب الله للنظام والدولة السورية اثناء الحرب مع المعارضة السنية ايضاً.
لقد أصبحت سوريا عملياً من محور المقاومة المدعوم من ايران ووجود الحرس الثوري فيها ودعم الميليشيات الايرانية، وكل هذا زاد من الشرخ والصراع السني والشيعي في سوريا، وتهجير المكون السني الى الشتات والى الدول المجاورة في مخيمات اللجوء في الاردن ولبنان وتركيا وغيرها، وهذا الصراع الطائفي وما خلفه من قتل وتهجير والحرب الطائفية كيف ستساهم تداعياتها في مستقبل سوريا؟، الى جانب ما تركه الصراع والشرخ من نتائج لها تاثيرها على مفهوم التعايش السلمي بين كافة اطياف واعراق ومكونات الشعب السوري، خاصة مع استمرار الحرب حتى الان، وفي السياق نفسه يتبادر لذهني السؤال المتعلق بالنظام السوري نفسه، فهل سيستغل ويستفيد الرئيس بشار الاسد من ضعف حزب الله في لبنان بعد الضربة التي تلقاها من اسرائيل، لكي يعود الاسد رئيس الدولة السورية الى الحضن العربي، ام ان الديون المتراكمة عليه لايران تقيده وتربطه وتمنعه من هكذا خطوات تقارب، خاصة مع وجود رباط عقائدي ديني شيعي علوي بينهما.
ان تعقيدات الوضع في سوريا وصلة ذلك بمستقبلها والمنطقة موضوع يطول شرحه، ولكن باختصار يجب أن نضع في تصورنا الصراع على جبهة الجولان السوري والميليشيات والصراع مع اسرائيل، خاصة وجود الميليشيات في منطقة السويداء اثناء الحرب القائمة في سوريا حيث شهدت السويداء مظاهرات ضد النظام السوري وفقدان النظام السوري السيطرة عليها، وفي مناطق تواجد المكون الدرزي الذي يطالب باستمرار بالانضمام إلى الادارة الذاتية في الشمال السوري وتطبيق هذا النموذج الاداري في منطقته أيضاً، ولكن هذا لم يحدث بعد، ويوجد سيناريو محتمل وقد ظهر بعد الصراع الجاري مع المليشيات في الجولان ودخول الجيش الاسرائيلي الحدود السورية مؤخراً، وما تبع ذلك من تأزيم للوضع، وهو اي هذا السيناريو يتضمن احتمالية ايجاد منطقة عازلة تبدأ من الشمال السوري نزولاً حتى الجنوب مروراً بالسويداء حتى حدود الجولان والمنطقة المحاذية للحدود الاردنية ، لتكون منطقة عازلة تمنع النفوذ الايراني وتوقف ظاهرة تجارة المخدرات وخطرها على بلدان الجوار، فما هو مستقبل سوريا فهل ستقسم ام تبقى موحدة، ام هل ستبقى تحت الهيمنة الايرانية ومحور المقاومة؟
أما واقع ومستقبل العراق، فبعد سقوط نظام البعث وحكم صدام حسين ووجود هيمنة ايرانية واضحة وتواجد للميليشيات الايرانية فيه، والتي تطغى على سيادة الدولة كما هو الحال في لبنان واليمن، فالدولة العراقية اليوم تأمل وتتطلع الى الاستقلال الحقيقي في القرارات السيادية وارادة الدولة، وما تزال هذه الامال حتى اليوم لم تتحق للاسف، والشعب العراقي ما زال يعاني من تدهور وضعه الاقتصادي بالرغم من انه دولة نفطية ذات مدخول مالي كبير، ولكن الفساد المستشري منع الشعب من الحصول على ايرادات واموال النفط التي لا يُعرف اين تذهب ومن يسلبها، وما زال الشعب يعاني من الفقر وغياب للخدمات، فما هو مستقبل العراق ضمن هذا الواقع والمعطيات المعقدة، وهل سينجح في التخلص من الهيمنة الخارجية؟
ان شرح الواقع للمنطقة يطول، ولكن من الواضح أن الدول العربية التي تسيطر عليها ايران تعاني من الحروب والاقتصاد المتردي، كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن ولبنان، كل هذا التراجع يبدو واضحاً عند مقارنة هذه الدول مع أخرى لم تهيمن عليها ايران واستطاعت أن تنهض وتتطور بتحالفها مع الغرب مثال ذلك دولة الامارات وما تشهده من تنمية ونهضة كبيرة، وبالتالي نلاحظ الفرق بين ما وصلت اليه هذه الدول وبين ما وصلت له الدول التي تحالفت مع ايران، ليبقى السؤال ما مستقبل الدول العربية فهل سوف تنقسم أو تحكم من دول خارجية تهيمن عليها؟، أم أن الشعوب سوف تستقل وتنهض بواقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟، وللاسف مستقبل الشرق الاوسط مرهون بالحاضر القريب المنقسم بفعل الصراعات والقتل والقصف والديون المتراكمة، وبالتالي فإن المؤشرات الواقعية الملموسة لواقع البلدان العربية في الشرق الاوسط تدل على ان المستقبل القريب قاتم وليس مبشر بمستقبل مشرق تستحقه شعوبنا وتطمح اليه وكما تأمل بأن تكون.