يقتلني الرعب .. في عيون أطفال غزة

عوض ضيف الله الملاحمه

يبدو ان غزة ستودي بي — وكثيرين غيري —ستقتلني ، سأموت قهراً عليها ، وأنا أخال نفسي كمن كبّله عدوه ، وأمطره ضرباً في سوطٍ من ذيل فيل . شعور مرعب ينسجه خيالي العاجز عن تقديم ما يلزم تجاه غزّة .

مع ان طبيبي النطاسي البارع ، ومنذ شهر شباط الماضي ، قد حظر عليّ مشاهدة ما يحدث في غزة من تطهير عرقي وإبادة ، لأن قلبي لم يحتمل مشاهدة الإبادة الجماعية لأشقاء عرب ، فارتفع ضغط الدم عندي بشكل كبير هدد حياتي ، ولم يقبل النزول او الإنخفاض لأكثر من شهر . مما اضطر طبيبي لوصف نوعين من المهدئات واحداً تناولته لثلاثة او اربعة اسابيع ، وألزمني بتناول النوع الثاني لستة شهور متصلة تنتهي في اوائل شهر تموز القادم .

الا انني وجدت نفسي كما الطفل ، استرق السمع وأختلس النظر بين الفينة والأخرى للمحطات التلفزيونية لأتابع ما يحصل من إجرامٍ في غزة ، ثم متابعة ردت فعل العرب ، هل ما زالوا عاجزين ، صامتين ، متخاذلين بليدين فاقدين لمشاعر العروبة والانسانية .

وعندما انظر خِلسة اركز نظري على الأطفال دون ان أشعر . وعندما أشعر ان قلبي لم يعد قادراً على الإحتمال أشيح بنظري واحوّل التلفزيون الى محطة أخرى . تقتلني نظرات الرعب في عيون الأطفال الغزيين ، وهم يلتصقون بجدار مُنهار او متمسكون في حمار يحمل ما لا يستحق حمله من الفرشات والحرامات التالفة والمشبعة بغبار الردم الناتج عن الغارات التي تستهدف مساكن العائلات ، وكلما تأكد العدو من ان احدى العمارات يقطنها عدد اكبر من الغزيين ، كلما كانت بالنسبة للعدو صيداً ثميناً وهدفاً مُغرياً ، ليبادر بقصفها باكثر الاسلحة فتكاً ليقضي على جُلّ من فيها .

كل القتل والاجرام والإبادة تظهر في عيون أطفال غزة . خاصة من ينجو منهم من العائلة بأكملها . فاصبح الكثير منهم بلا أبٍ يحمله ، ولا أمٍ تمسح دمعته ، ولا أخٍ يربت على كتفيه ، ولا أختٍ تقاسمة لقمة او شربة ماء .

ليت الشرفاء من أدباء عالم الغرب يلحظون ذلك ، ويكتبون الروايات والمسرحيات عن حركة العينين ، وتسمرهما ، وجحوظهما ، والدمو ع متحجرة في مآقي العيون الخائفة المرعوبة التي تعيش التهديد في كل ثانية
، والوجه عبقٌ بالتراب والبارود ، وتعابير الوجه تنطق افصح من اللسان ، و إشارات الأيدي العفوية تحكي دون ان ينبس الطفل ببنت شفةٍ ، وعندما يعجز عن التعبير ، تنهمر الدموع بسخاء عجيب ، حتى لأنك تخالها انها نافورة صغيرة حلّت محل المآقي الدافقة بمشاعر العجز ، وقلة الحيلة ، والخوف ، الخوف ليس من الموت ، بل الخوف من ان يتأخر الموت او لا يأتي فلا يقوى على مواجهة الحياة منفرداً ، ضعيفاً ، عاجزاً ، تائهاً ، مشرداً ، عطِش ، وجائع ، وتعِب ، ولا اب يحميه ، ولا أم تأويه ، ولا اخ ينجيه من قسوة الحياة ، ولا أختٍ تربت عليه وتشعره بالحنان الذي ذهب ، وغادر ، واختفى الى غير رجعة .

كيف يقوون على تحمل هذا الاجرام !؟ وكيف يعيشون ويتنفسون في خضم هذه القسوة والقتل والدمار !؟ أعمار أبنائي في منتصف الثلاثينات ، ولي من الأحفاد خمسة — ما شاء الله — تصوروا انني اتابع ابنائي في حركاتهم اليومية المعتادة ، واذا ذهب احدهم الى قريتنا ( زحوم / الكرك ) ، لا أنام حتى يعود سالماً وأشكر الله على نعمته . اما اذا مرض أحد أحفادي ، أشعر بميلٍ للبكاء حتى يشفى . وعندما أخال او افترض ان واحداً من ابناء غزة ابن لي او حفيد ، يا ترى ماذا سيكون وضعي ، وخوفي عليه ، وقهري اذا عجزت عن مساعدته او ان افتديه بحياتي .

الشرفاء من امتنا العربية يضعون انفسهم مكان ابناء غزة ، وعندما يفترضون ان ما حلّ وأصاب ابناء غزة حلّ بهم او بأبنائهم او أحفادهم ، وهم عاجزون عن المساعدة ، يشعرون بالقهر ، والضيم ، والموت البطيء . أخجل من نفسي عندما ارى إنساناً عربياً بحاجة ماسة للعون ولا ينتخي له الأشقاء .

ولعجزي عن التعبير والتصوير ، أختم بأبيات تُدمي القلب حزناً على أهلنا في غزة ، وقهراً ويأساً من نظامنا الرسمي العربي ، كلمات / الأستاذ صلاح الغافري ، حيث يقول :—
من يفتدي دمعَ الصغيرةِ حينما / فُجِعت .. على الرمضاءِ تجري حافية
قد هالها القصفُ الحقودُ ، وأُمها / هرعت بطفلٍ تحت شمسٍ حامية
يا ويحَ شِعري قد تعاظم خطبُنا / فمصيبةُ الخُذلان أعظمُ داهية
أبُنيتي إن المرؤةَ إمَّحت / وعزائمُ الأعرابِ أضحت واهية
أبُنيتي إن الرُعاة إستُعبِدوا / وكذا الخيانةُ قد تبدت عارية
أبُنيتي إن الجيوش تخاذلت / عن نُصرةِ المظلوم صارت لاهيه
أبُنيتي إن الحقيقةَ مُرّةٌ / لن يلقى منكِ الصوتُ أُذناً صاغية
لا تغسليهم بالدموعِ فإنهم / ألِفوا المذلّة وأستطابوا الهاوية
مُحِقت أيادٍ لم تُناصِر أهلها / سُفِعَت نواصٍ لم تَثُرْ لمُنادية
خاب الرِجالُ إذا إستلذوا عيشهم / وحرائِرُ تُسقى المنونُ علانية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى