” نقاش اليوم الحالي و اليوم التالي “
د.أحمد رفيق عوض
رئيس مركز الدراسات المستقبلية / جامعة القدس
إسرائيل هي التي اخترعت مفهوم اليوم التالي، كأنها ضمنت نتائج اليوم الحالي، و كأنها عرفت و تأكدت و انتهت من مشاكل و تبعات اليوم الحالي، و كأنها لا ترى ما الذي يحدث في اليوم الحالي، و كأنها انتصرت و لم يبق عليها سوى تصميم المستقبل و تأثيث المشهد و ترتيب الاوضاع و توزيع الدعوات على الحضور المناسبين، و كأنها ضمنت ردود أفعال جمهورها و أفعال الاقليم و أفعال العالم.
إسرائيل لأسباب متعددة أخترعت نظرية اليوم التالي من اجل بث إشاعة كبرى تتوهم من خلالها انها حققت أهدافها و أنجزت مهمتها و لم يبق سوى توزيع ألادوار و إخراج المشهد و تلقي الجوائز و إنتظار التصفيق، المفارقة في هذا كله، ان كثيراً من الاطراف بما فيها الفلسطينية او بعضها على الاقل اشترك في مسرحية الوهم هذه، و صارت اطراف كثيرة تدلي بدلوها و تعرض رأيها و تجتهد بفتاوي غريبة و عجيبة، و انشغل الناس باليوم التالي و كأنهم لا يعيشون في اليوم الحالي، و كأنهم لا يرون ما يجري في اليوم الحالي من مشاهد و فظائع و دماء، المفارقة هنا ان المجتمع الدولي و هو تعبير يشمل العالم الغربي صانع القرار في منطقتنا و المهيمن على مصائر شعوب و أنظمة و حدود و ثروات، المفارقة ان هذا المجتمع الدولي بصمته و هدوئه و ترفعه و استعلائه و دعوته الانيقة للهدوء او الالتزام بالقانون الدولي الانساني، ساهم و يساهم في الترتيب لليوم التالي بالسكوت عما يجري في اليوم الحالي او ربما و هو الاكيد يساهم اكثر من السكوت بكثير جداً.
و الفرق بين اليوم الحالي و اليوم التالي حسب الرؤية الاسرائيلية يتعلق بتصميم أمني و سياسي ليس لقطاع غزة فقط و انما لمجمل الاراضي الفلسطينية المحتلة و كذلك ترسيم العلاقة مع الشعب الفلسطيني بالتنسيق مع اطراف اقليمية و دولية متعددة.
اليوم التالي كما تريده إسرائيل يوماً هادئاً و نظيفاً و مشمساً على اسرائيل فقط، بمعنى ان تكون غزة هادئة هدوءاً يشبه هدوء المقبرة او هدوء الصحراء او كليهما، منطقة مسيطر عليها ويسجل عليها كل نقطة ماء او نقطة وقود او حبة دواء او حفنة غذاء، بدون تمثيل سياسي ولا طموح او افق قومي، ولا علاقة لها بالضفة المحتلة ولا تأ ثير لها على مجمل الاحداث، و ليس هذا فقط ، و إنما ان يحدد فيها سكانها، عدداً و انتماءاً و توجهات، اي ان التفتيش الدقيق لا يشمل الشاحنات الداخلة الى القطاع فقط، بل يصل هذا التفتيش الى القلوب و الافعال ايضا، و قد تفتق الذهن الاسرائيلي في مسألة تصميم اليوم التالي الى طرح عشرات الافكار المناسبة لادارة قطاع طالما ازعج اسرائيل و صنع كوابيسها، و كان اخرها ان تقوم العشائر بادارة القطاع خدماتياً و قد يتطور ذلك الى الادارة السياسية في انتاج ردئ لفكرة روابط القرى التي انتهت الى ما انتهت اليه، فكرة حكم العشائر هي فكرة استعمارية قديمة بدأت منذ الثلاثينيات من القرن الماضي و هو تأسيس على إرث انكليزي قديم، و إسرائيل لا يمكنها ان تخترع الماء الساخن كما يقال، فهي تريد ترجمة القانون الاستعماري الشهير “فرق تسد” على الحالة الفلسطينية من خلال ادوات جهوية تارة، و حزبية تارة اخرى، و عشائرية تارة ثالثة، و في كل مرة ، يعود الصراع على اشده.
اعود الى اليوم التالي الذي تريده اسرائيل و كأنه ممر هروب او قارب نجاة لما يجري من احداث في اليوم الحالي، وهو فقط الذي سيقودنا الى يوم تالٍ غير الذي تحلم به إسرائيل او تريد تصميمه في خيالها الجامح.