أزمات ، وجامعات، وعقوبات
د. أحمد رفيق عوض
رئيس مركز الدراسات المستقبلية في جامعة القدس
“أزمات إسرائيل”
بعد مئتين وخمسة أيام تدخل اسرائيل مرحلة أخرى مختلفة تماما ، مرحلة بدون أكاذيب أو ادعاءات ، لا انتصارات واضحة ولا بطولات زائفة ولا أدوارا مدعاة، مرحلة تبدو فيها اسرائيل أكثر انكشافا واكثر عطبا وتعبا ، مرحلة زادت فيها الأعباء والجبهات والاتهامات والصراعات ، هي مرحلة يدخلها كل محتل في العادة ، حيث عليه ان يواجه انهيارات كثيرة متتابعة ومتلاحقة ، انهيار الفرد من الداخل، وانهيار السردية الجامعة وانهيار الأحلام ، وانهيار الأوهام.
ولأن ذلك كذلك ، فهي مرحلة العناد والتطرف ايضا، فالمحتل عادة عندما يصطدم بحقائق الواقع واشتراطاته ، فانه يعاند ويرفض الاعتراف او الاستسلام و يحاول ان ينفصم عن الواقع كليا، الامر الذي يزيد في حدة ازمته، وعلى الرغم من أن التسوية قد تنقذ المحتل من ازمته، ولكنه –للعجب- يرفض ذلك لأنه يعتبرها خضوعا لواقع يهرب منه او يرفض التعامل معه ، فيغرق اكثر واكثر.
“الطالب عندنا والطالب عندهم”
انزعجت كثيرا عندما قرات كلاما لكاتب فلسطيني احترمه قال فيه إن الطالب عندنا لا يحتج إلا انتصارا لعواطفه او غرائزه، أي إذا لحق بفصيله او عشيرته او دينه اذى، ولكنه لا يحتج اذا لحق بالقيم العليا ظلم او اعتداء، أي ان هذا الكاتب اعتبر الطالب عندنا عاطفي و غرائزي وان انتماءاته ومرجعياته ضيقة وأنه ذو أفق ضيق، والحقيقة ان الأمر ملفت جدا، فلماذا تحتج جامعات الغرب الاستعماري فيما لا يعرب طلاب جامعاتنا العربية عن آرائهم أو تضامنهم أو حميتهم القومية أو الدينية ، وللإجابة لابد من القول ان كل ظاهرة اجتماعية ليس لها سبب واحد، كما أنها لا تتعلق بالذات فقط بل بالموضوع ايضا .
وقبل كل شيء ، فإننا نحيي كل طالب او أستاذ جامعة ضحى بوقته وجهده من أجل التظاهر والوقوف مع شعبنا الفلسطيني، ونعتبر ذلك ترجمة رائعة ومشرفة للضمائر الحية والمواقف الباهرة التي قد تغير وجه التاريخ، ولكن هذا لا يمنع ان نقول ان هذه المظاهرات التي تجتاح جامعات الغرب الاستعماري إنما هي تعبير عن سقوط السردية الإسرائيلية وبسبب من التشدد الكبير والتزمت في استخدام هراوة معاداة السامية التي حولت جماعة محدودة إلى جماعة مقدسة لا تمسّ ولا تنتقد ولا تحاسب ومن ثم استثمار ذلك سياسيا وامنيا وماليا، أي ان الوقوف مع غزة هو أيضا دفاع عن الذات ومحاولة لتصحيح الصورة ومحاولة لكسر القيود ونظام العقوبات الذي يمكن من خلاله اغتيال أي شخصية معنويا ، وكذلك هي مناسبة للاحتجاج على أساليب الاستغلال والاستغفال والابتزاز والحصول على الدعم السياسي لصالح إسرائيل بلا حساب.
احتجاجات الغرب ، وعلى الرغم من أنها تعبير حقيقي عن الانحياز للقيم العليا ولكنها أيضا مناسبة سانحة وهامة لتعرية كل تلك الأنظمة والقيود التي تكبل الجميع لمنعهم من الانتقاد والمساءلة. أما الطالب في عالمنا العربي ، فهو مهدور الكرامة ، مبعد عن الجدل العام، متهم منذ البداية بالأجندات، فقير وخائف ومعطل ، تحت نظام سياسي متوتر ومتوجس ومتهم بشبهة التمثيل والشرعية، لهذا، فان المظاهرة تخيفه ومشاركة المواطن ترعبه، ولأن العلاقة الطبيعية بين الحاكم والمحكوم مقطوعة أو مشوهة او مختطفة ، فان الطالب في عالمنا العربي لن يشارك في قضية عامة أعفاه النظام السياسي اصلا من المشاركة فيها تخويفا بالسجن والطرد اولا ، او اغراءا بالامتيازات أو العطايا ثانيا.
الاحتجاجات في الغرب لها سياقها التاريخي ، وعدم الاحتجاجات عندنا لها سياق تاريخي اخر، هل هذا تبرير، بالعكس، هذه إضاءة للوضع بقصد تغييره.
“عقوبات الإدارة الأمريكية”
باختصار ، ليس هناك عقوبات أميركية على اسرائيل، لا على الحكومة او على وزرائها أو أي من هيئاتها أو دوائرها، كل ما قيل عن تلك العقوبات فهي اما بدون تأثير على الإطلاق أو هي مجرد كلام في الهواء . أكثر من ذلك، ، فالعقوبات التي تهدد أميركا بها اسرائيل، هي ايضا عقوبات اعلامية اعلانية لا تساوي الورق الذي كتبت عليه .اذا، لماذا تهدد أميركا بأمور لا تستطيع ان تنفذها او لا تريد ان تنفذها ؟!.
ببساطة ، لان امريكا تريد ان تربح كل شيء، اصدقاءها من العرب، الهيئات القانونية الدولية، بعضا من شارعها الغاضب، قطاعات يسارية من الحزب الديمقراطي ، بعض المعارضة الاسرائيلية ، بالإضافة للتعبير عن غضب الادارة الناعم – والحقيقي- من تصرفات الحكومة الاسرائيلية . باختصار، تهديدات واشنطن التي لا تنفذ هي أيضا تعبير عن خلافات في البيت الأبيض ، وجدالات لم تجد حلولا، وفي نهاية الأمر ، هي أيضا تعبير عن ضعف هذه الإدارة وعدم قدرتها على القرار، والأهم من كل ذلك، انعدام الضغط الدبلوماسي العربي على صانع القرار الأمريكي ، ولهذا، يبدو الأمر وكأنه خلاف في البيت الواحد ما بين الاخ الاكبر الامريكي والبنت المراهقة المتهورة إسرائيل.