استعادة مركزية فلسطين..!
يتصل السياق التاريخي لصراع العرب مع الكيان الصهيوني بمخلفات الحرب العالمية الثانية وما تلاها من إنشاء دولة الكيان في العام 1948. وفي ذلك الوقت، عارضت الدول العربية، التي وحدها شعور بالتضامن، خطة تقسيم فلسطين وإنشاء دولة الكيان. وأصبح الصراع من أجل تحرير فلسطين رمزًا للنضال ضد الاستعمار والإمبريالية، وكان له صدى غامر تردد مع تطلعات الشعوب العربية إلى الحرية وتقرير المصير.
ولكن، بمرور الوقت ومع تطور الوقائع الجيوسياسية، طورت بعض الأنظمة العربية تحولاً إستراتيجيًا في الأولويات. ودفعت طفرة النفط في السبعينيات والرغبة في التنمية الاقتصادية المحلية بعض الدول إلى إعادة النظر في موقفها من الكيان الصهيوني. وشكل توقيع معاهدات سلام معه خروجًا مبرَّرًا بالبراغماتية عن التركيز السابق على القضية الفلسطينية. وعكس هذا التحول استعدادًا لإعطاء الأولوية للمصالح القُطرية على حساب الأهداف العربية الجماعية. وساهم ذلك في المزيد من تقويض نوع الوحدة الذي ميز استجابة المنطقة لنشوء المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين في البدايات.
ترافق هذا الاتجاه في العالم العربي مع تلاعب بالخطاب العربي العام لتعزيز السلطة وقمع المعارضة. وسعت حكومات عربية إلى تصوير نفسها على أنها رسُل الاستقرار والتقدم الاقتصادي، غالبًا على حساب الاهتمام بالقضية الفلسطينية. ومن خلال السيطرة على السرديات الإعلامية والمناهج التعليمية، تمكنت الأنظمة المعنية من التقليل من الأهمية التاريخية للنضال ضد الاستعمار الصهيوني في علاقته بالهيمنة الاستعمارية على الإقليم، وتأطير ذلك كعائق أمام التنمية الوطنية.
في هذا السياق المشوه، أصبحت القضية الفلسطينية ضحية للنفعية السياسية. وأدى الخوف من تصاعد المعارضة الداخلية والضغط الخارجي إلى الحذف المتعمد للرواية الفلسطينية من المواد التعليمية ومركز الخطاب العام، مما خلق فراغًا في فهم تعقيدات الصراع. وأدى هذا التهميش المتعمد إلى فصل الأجيال الشابة عن جذورها التاريخية، وجعلها محدودة المعرفة ومشوشة من حيث ارتباطها العاطفي بالنضال الفلسطيني كقضية عربية وإنسانية.
ثم أدى الاندفاع إلى تطبيع علاقات الدول مع الكيان في السنوات الأخيرة إلى المزيد من تفاقم الانفصال عن القضية الفلسطينية والإخفاء الغاشم لعلاقتها مع مشاكل العرب. وفي حين تم تأطير المبادرات الدبلوماسية والاتفاقات الاقتصادية مع الكيان كخطوات براغماتية نحو الاستقرار الإقليمي، جاءت هذه الخطوات عمليًا على حساب تصحيح المظالم التاريخية للشعب الفلسطيني. وغالبًا ما همشت ضرورات التطبيع ومتطلباته المفروضة من العدو وقوى الهيمنة الغربية المناقشات حول حقوق اللاجئين الفلسطينيين، ووضع القدس، والقضايا الأوسع نطاقًا التي تشكل جوهر الصراع.
لكن ما حدث هو أن اتجاه تطبيع الكيان وتحييد القضية الفلسطينية لم يجلب ازدهارًا اقتصاديًا وتنمية للدول المنخرطة، ولا سلامًا للإقليم. بل إن الأوضاع الاقتصادية وجهود التنمية في دول التي طبَّعت ذهبت إلى مزيد من الانهيار والفشل، ولم تحقق أي درجة من الاستقرار الداخلي أو انسجام الشعوب مع الأنظمة. وبالإضافة إلى ذلك، ترك تغييب السياق التاريخ الشامل والتحديات المستمرة التي تنتجها القضية الفلسطينية فراغًا في الذاكرة الجماعية للمجتمعات العربية، بطريقة أعاقت فقط تطوير منظور دقيق حول تعقيدات الصراع والأزمات في الإقليم وكيفية مواجهتها.
من الواضح الآن أن كل هذه العقود المحبطة من تهميش فلسطين واحتضان العدو الصهيوني لم تفعل سوى خلق فهم مشوه لعلاقة فلسطين العضوية بالديناميات الإقليمية. وقد أعاق ذلك بشدة تطوير هوية عربية جماعية متجذرة في التجارب التاريخية المشتركة والنضال ضد الظلم وتحرير العرب كأمة وإقليم من هيمنة الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة. بل أدت تشويه الرواية عن فلسطين وتحييدها وتسويق تطبيع الاستعمار الاستيطاني الوحشي هناك إلى خلق رواية تصور الفلسطينيين كجيران مرهِقين -أو حتى خصوم في بعض الأحيان، كما يُلاحظ في مداخلات عرب أفراد أو مؤسسات إعلامية وسياسية. وسمح تآكل التعاطف مع محنة الفلسطينيين بتطبيع تهميشهم وخلق بيئة يصبح فيها التضامن معهم غير ضروري –بل وخطير في بعض الأحيان، في حين يُفتح الباب لتطبيع العدو الحقيقي للأمة كقاعدة متقدمة لخضاع العرب جميعاً.
في الحقيقة، ليست إعادة القضية الفلسطينية إلى مركز العناية العربية مسألة عدالة تاريخية فحسب، بل هي أيضا مصلحة عربية إستراتيجية خالصة، سواء لناحية الانتصار للحرية والكرامة العربية ورسم شخصية غير مائعة وصاحبة موقف، أو لتعزيز الوحدة والتفاهم على أساس التحشيد حول قضية مشتركة تستحق أن تكون كذلك. وينبغي أن يعترف العرب الرسميون من التجربة أن أي فائدة لن تأتي لهم ولا لشعوبهم من تطبيع عدو وحشي عدواني تُعرض همجيته الآن كل دقيقة على الشاشات، أو حتى تصور أنهم أنداد له في التبعية للسيد الأميركي. وسيكون من الحكمة استقواء الأنظمة بشعوبها والانسجام مع عواطفها ورغباتها بدلًا من التحالف مع العدو ضدها. ولا شيء أوضح من الانفصال الكامل بين الأنظمة وعواطف شعوبها الذي تكشفه المعركة الجارية الآن في فلسطين، حيث لا مجال لإخفاء الأفعال والمواقف– وحتى النوايا.
ينبغي استثمار هذه العودة المعمدة بالدم لمركزية فلسطين لمراجعة الحسابات وتغيير التوجهات، لصالح إعادة تطبيع القضية الفلسطينية في وعي الأجيال، وإقامة صلتها بديناميات الإقليم. وإذا كان الناس في الغرب قد شرعوا في تثقيف أنفسهم حول فلسطين بعد التطورات الدامية الحالية، فإن مساعدة الأجيال العربية في فهم مكانهم من هذه التطورات وتأثيرها على حيواتهم وحركة إقليمهم هي واجب قومي، ووطني، وأخلاقي، في حين يشكل تسويق الكيان الهمجي المعادي عضويًا للعرب ككائن طبيعي إجرامًا في حق الفلسطينيين، وتواطؤًا في المزيد من إخضاع الشعوب العربية وإسلامها للتبعية والهوان.
الغد