تطبيق ثريدز.. لماذا يريد مارك زوكربيرغ استنساخ تويتر؟

يجلس مارك زوكربيرغ، على رأس طاولة الاجتماعات كعادته، مع فريق الإدارة في “ميتا”، وعلى رأسهم آدم موسيري، رئيس منصة إنستغرام، مفكرين بعمق كيف يمكن أن ننقذ شركتنا بعد أن أطلقنا على أنفسنا هذا الاسم الغريب؟ “ميتا”، ما هذا الاسم؟ وفي أي مجال نعمل أصلا؟

نعم، صحيح، في مجال وسائل التواصل الاجتماعي.

يقول أحدهم: “هل رأيتم ما يفعله إيلون ماسك في تويتر، يا له من مهرج!”.

هنا، تلمع الفكرة في رأس مارك ويقول: “حسنا، يبدو أننا سنعود إلى مجال أعمالنا الأصلي، هذه فرصتنا. إن كان إيلون ماسك يرغب في مواجهتي في الحلبة، فعليه أن يواجهني في ملعبي. سنطلق تطبيقا منافسا لتويتر، ويشبه تويتر، حتى إننا سنعطيه اسم “ثريدز” (Threads)”.

طبعا لم يحدث هذا السيناريو بهذا الشكل، على الأقل حسب علمنا، لكنه يلخص فكرة إطلاق تطبيق “ثريدز” الجديد التابع لمنصة إنستغرام، التابعة بدورها لشركة “ميتا”، أو كما نعرفها سابقا بشركة فيسبوك. هنا رأى زوكربيرغ فرصة في سوق التواصل الاجتماعي، فرصة لنسخة جديدة من تويتر، لكنها مستقرة تقنيا، وتملك تأثير شبكة ضخمة، ولا تخضع لأهواء وتصرفات إيلون ماسك العجيبة.

ببساطة، نسخة تويتر لكن تديرها شركة ميتا!

 

مصائب تويتر عند قوم فوائد

أعلنت شركة ميتا عن إطلاق تطبيقها الجديد “ثريدز”، وهو من المفترض أن ينافس تويتر، حتى إنه يشبه العصفور الأزرق في كل شيء تقريبا من الداخل، طريقة كتابة التغريدات القصيرة نفسها، لكن بعدد حروف أكبر يصل إلى 500 حرف، وطريقة الرد على تلك التغريدات والتفاعل معها نفسها. (1)

يجري تطوير التطبيق منذ شهر يناير/كانون الثاني الماضي، استغلالا للمشكلات الأخيرة التي تتعرض لها منصة تويتر بعد انتقالها لملكية إيلون ماسك، وهو ما أكده آدم موسيري، رئيس إنستغرام، مشيرا إلى أن “التقلبات” و”عدم إمكانية التنبؤ” بما يحدث في تويتر تحت قيادة ماسك قد أتاحت الفرصة للمنافسة في هذا السوق. (2)

جاء الإعلان عن تطبيق “ثريدز” الآن بعد المشكلة الأخيرة التي تسبب بها ماسك وهي الحد من التغريدات التي يمكن للمستخدمين رؤيتها في اليوم، وهي خطوة لم يسبق أن قامت بها أي منصة تواصل اجتماعي، لأن هذا ببساطة على النقيض من الفكرة التي قامت عليها تلك المنصات في الأساس، كأن تطالب زوار مطعم يعمل على مدار 24 ساعة في اليوم أن يتوقفوا عن الأكل في تمام الساعة 9 مساء.

من المرجح أن هذا القرار سيكون مؤقتا، لكنه أثار حفيظة المستخدمين والمعلنين، فالمعلنون على منصات التواصل الاجتماعي يعتمدون على مدى الانتشار والتفاعل والمشاركة في تلك المنصات، وما أشارت إليه التقارير الداخلية في تويتر أن مبيعات الإعلانات في أميركا تراجعت بنسبة 59% مقارنة بهذا الوقت نفسه من العام الماضي، رغم إصرار ماسك على أن كل شيء يجري على طبيعته وأن المعلنين قد عادوا إلى المنصة. (3) المشكلة أن محاولات البحث عن تفسير منطقي لأيٍّ من هذه القرارات أصبحت مستحيلة على الصحافة الآن، لأن ماسك تخلص من كل موظفي التواصل في تويتر.

عموما، أرباح الإعلانات ليست لعبة صفرية، أي شركة بميزانية تسويق ضخمة ترغب في نشر إعلاناتها أينما كان هناك انتباه من المستخدمين، لهذا لا تتنافس شركات تويتر وميتا بالضرورة على الأموال نفسها من الإعلانات. لكن من ناحية أخرى، تتبع الإعلانات الصيحات (الترندات) نفسها مثل بقية السوق، وغالبا ما تنجذب إلى أي فرصة جديدة تبدو لامعة وباهرة. لذا، إن تمكن تطبيق “ثريدز” من توفير مكان آمن لوضع الإعلانات في موضع انتباه المستخدمين، فقد تتردد بعض الشركات أكثر في العمل مع تويتر مستقبلا.

 

تطبيق جديد لا يقدم جديدا

دائما ما تشعر أن تويتر منصة إخبارية أكثر منها شبكة اجتماعية، حتى إن اعتبرتها هكذا فهي شبكة للنخبة؛ لن تجد أصدقاءك المعتادين يشاركون “الميمز” المعتادة والمكررة، لكنْ هناك صحفيون ورجال أعمال وشركات كبرى وسياسيون وتصريحات نارية، وغيرها من الأمور التي لا يهتم بها أحد تقريبا إلا مَن يعمل بتلك المجالات. لهذا فإن إمكانية الحصول على تطبيق مشابه لتويتر، ولكن بشبكة إنستغرام نفسها، من أصدقائك وعائلتك وجيرانك، لهو أمر جديد علينا، وربما أمر مثير للغاية أيضا.

مارك زوكربيرغ كان يحب تأثير تويتر منذ بداياته في إثارة النقاشات العامة في المجتمع، وحاول شراء المنصة أكثر من مرة في الماضي، وهو ما دفعه لتلخيص فكرة تطبيق “ثريدز” قائلا: “يجب أن يوجد تطبيق للنقاشات العامة يملك أكثر من مليار شخص. لقد أتيحت الفرصة لتويتر ليكون هذا التطبيق ولكنه لم يفلح. نأمل أن نفعل نحن هذا”.

 

لكن ما يُغفله مارك هنا هو أنه عندما ظهر تويتر عام 2006، كانت فكرة كتابة مقاطع نصية قصيرة جدا فكرة جديدة حينها، لأن مَن حضر الإنترنت وقتها سيتذكر انتشار المدونات، التي كانت تتطلب كتابة “تدوينات” طويلة. لذا، فعندما تصدر منصة يمكن للناس أن يكتبوا عليها خبرا سريعا، أو معلومة بسيطة، أو رأيا سياسيا، أو أي شيء قصير لا يتجاوز 140 حرفا، فهي فكرة جديدة وعصرية في زمنها، حتى إن تلك المنصة اشتهرت بأنها منصة للتدوين المصغّر (microblogging).

لكن عندما تقدم بديلا لتويتر، بالخصائص نفسها بالضبط عام 2023، فهنا أنت لم تقدم شيئا جديدا فعلا، بهذا أنت تواصل إصدار تطبيقات جديدة لكي تفعل وتقدم الشيء ذاته. آخر منصة قدمت شيئا جديدا لفت انتباه العالم كانت “تيك توك”، هذا إن اعتبرناها منصة تواصل اجتماعي من الأساس، لأنها استغلت فكرة التصوير بالهواتف الذكية، وفكرة الملل من مقاطع الفيديو الطويلة، لتنتج مزيجا من مقاطع فيديو قصيرة جدا وسريعة جدا جدا، وهو ما كان مناسبا لمستهلكي وجمهور تلك المنصة تحديدا.

لكن هذا لا يعني أن ثريدز لا يحظى بنقاط قوة. إنستغرام يملك نحو مليارَيْ مستخدم نشط شهريا (4)، بينما يملك تويتر 368 مليون مستخدم، هذا يعني إذا تمكن تطبيق “ثريدز” من تحويل 20% فقط من قاعدة مستخدمي إنستغرام، فسيتفوق على تويتر بسهولة من حيث عدد المستخدمين. بهذا لن يواجه التطبيق مشكلة في الاشتراكات الأولى، خاصة مع توفيره لتلك الخطوة بسهولة جدا، فكل ما عليك فعله هو التسجيل بحساب إنستغرام نفسه أصلا، لكن هل يكفي هذا لكي ينجح التطبيق الجديد؟

 

هل سينجح؟

التسجيل هو الخطوة الأولى، لكن لكي يكمل التطبيق مسيرته يجب أن يحتفظ بهؤلاء المشتركين ويحولهم إلى مستخدمين نشطين، يتفاعلون مع التطبيق باستمرار. هذا الجانب تحديدا هو الأصعب، لأنك بوصفك مستخدما لتطبيقات التواصل الاجتماعي عليك أن تخلق عادة جديدة بالكامل، وتجعل تطبيق “ثريدز” جزءا من روتين يومك الطبيعي، وهي مهمة ليست سهلة أبدا.

يشرح كتاب “مدمن: كيف تصنع منتجات تسبب الإدمان؟” كيف استخدمت المنتجات الناجحة مثل إنستغرام وغيرها عملية وصفها باسم “نموذج الإدمان” (Hooked Model)، وهي دورة من أربع مراحل تتكرر وتُشكِّل سلوكا معتادا لدى مَن يستخدمها، بمعنى أنها تصبح عادة يومية متكررة في روتين يومه. (5)

أول مرحلة هي عامل التحفيز والإثارة، عبر الاعتماد على المحفزات الخارجية والداخلية لحث المستخدمين على المشاركة؛ مثلا المحفزات الخارجية قد تتضمن الإشعارات أو الرسائل التي تطالب المستخدم بفتح التطبيق. بينما غالبا ما تكون المحفزات الداخلية هي استغلال الحالات العاطفية لدى الإنسان، مثل الملل أو الفضول أو الرغبة في التواصل الاجتماعي، مما يدفع المستخدم إلى اللجوء إلى تلك التطبيقات للترفيه وتقضية الوقت أو للتواصل مع الآخرين أو حتى لمعرفة الأخبار.

في المرحلة الثانية، تهدف تطبيقات التواصل الاجتماعي إلى تمكين المستخدم من اتخاذ أي إجراء بأسهل طريقة ممكنة؛ مثلا فكرة الاشتراك في “ثريدز” من خلال حساب إنستغرام نفسه، وتوفير واجهة مستخدم سهلة، وخيارات مشاركة بسيطة، ومحتوى مستمر لإبقاء المستخدم أكبر وقت بداخلها، يتصفح ويلقي بالإعجابات والتعليقات هنا وهناك.

في المرحلة التالية، على تلك التطبيقات أن تقدم مكافآت متغيرة للحفاظ على عودة المستخدمين إليها؛ مثلا تلقي الإعجابات والتعليقات والمشاركات على منشورات المستخدم، أو اكتشاف محتوى جديد ومثير للاهتمام والجدل. تثير تلك الطبيعة المتغيرة وغير المتوقعة لهذه المكافآت الترقب لدى المستخدم، وتشجعه على الاستمرار في العودة واستخدام التطبيق، لأنه إذا كان سيتوقع ما سيجده من مكافآت فلن يذهب إلى التطبيق أصلا.

وأخيرا يأتي الاستثمار، إذ تشجع منصات التواصل الاجتماعي المستخدمين على استثمار وقتهم وجهدهم ومعلوماتهم الشخصية في التطبيق، وكل مشاركة يقوم بها المستخدم تزيد من استثماره في التطبيق وتجعل تغييره أكثر صعوبة بالنسبة له، مثلا إن كنت قد نشرت المئات من صورك على تطبيق إنستغرام، ولديك مئات أو آلاف المتابعين هناك، فإن احتمالات تبديلك وانتقالك إلى تطبيق آخر لمشاركة صورك والبدء من جديد ستكون ضئيلة للغاية.

هل يستطيع تطبيق “ثريدز” أن يستغل هذا النموذج السابق لكي ينجح ويستمر ويستبدل تويتر فعلا؟ أم إن مبررات وجوده فقط تتلخص في أن إيلون ماسك قرر تدمير تويتر الآن؟ الأسئلة التي تظهر بعد إطلاق أي منصة تواصل اجتماعي جديدة الآن هي غالبا أسئلة وجودية بسيطة ولكنها غامضة: لمَن تلك المنصة؟ هل يحتاج إليها أحد؟ مَن سيستخدمها؟ ما الذي ستقدمه فعلا ولم يقدمه أحد قبلها؟

مارك زوكربيرغ يعرف هذا جيدا، ربما أنفق مليارات الدولارات على مشروع وهمي أطلق عليه “ميتافيرس”، لكنه يفهم كيف تعمل منصات التواصل الاجتماعي جيدا، ويفهم كيف يعمل تأثير الشبكة، لأن هذا تحديدا ما يجعل منصاته ناجحة ومنتشرة للغاية، وهذا ما دفعه لشراء إنستغرام ثم واتساب، لأن كليهما نما سريعا ووصل إلى كتلة حرجة تجعل كلًّا منهما مرشحا لاستمرار هذا النمو. لكن هل هذا يكفي لأن تبدأ الشركة تطبيقا جديدا من الصفر؟

الانتشار الواسع لتطبيق “ثريدز” الجديد اعتمد غالبا على “نوستالجيا” قديمة؛ على تذكرنا كيف كانت وسائل التواصل الاجتماعي في الماضي. هكذا تبدأ الطقوس المقدسة، النشوة وتجديد ذاتنا عند الانضمام إلى منصة تواصل جديدة؛ معظم مَن اشترك وشارك في هذا التطبيق الجديد سعيد ومتحمس لهذه البداية، نحن نعود إلى زمن التواصل الاجتماعي الجميل. تطبيق “ثريدز” هو تمثيل لذكرى جميلة في الماضي لم ننسها بعد، أو لم ننسَ إحساس السعادة التي منحتنا إياه في حينها.

لكن مع انقضاء تلك الليلة، والنشوة التي تجلبها، مع انتهاء جرعة الدوبامين، سنعود إلى أرض الواقع، ونتذكر أن عصر وسائل التواصل الاجتماعي كما نعرفه قد انتهى للأبد. زوكربيرغ فعل ما يفعله غالبا، وقدم نسخة متطابقة لشبكة اجتماعية موجودة، ثم سيبدأ في تحديد ما نراه على تلك الشبكة، ثم تبدأ الإعلانات في غزوها، وتبدأ الملايين تتدفق إلى حسابات شركة ميتا، ونكون قد عدنا إلى حيث بدأنا. فكرة “الميتافيرس” نفسها قائمة على أساس أن حقبة منصات التواصل الاجتماعي كما نعرفها أوشكت على الانتهاء.

عموما، تلك الخطوة من ميتا محفوفة بالمخاطر، والشركة تدرك هذا الأمر، وربما لهذا اختارت أن يكون التطبيق منفصلا وليس مجرد ميزة أخرى داخل إنستغرام، مثل ميزة الفيديوهات القصيرة “ريلز” (Reels). تطبيق إنستغرام حقق أرباحا بقيمة 51.4 مليار دولار في عام 2022، وهو ما يُمثِّل نحو 45% من إجمالي إيرادات شركة ميتا، لهذا من الصعب المخاطرة بدمج ميزة جديدة الآن، ربما تؤثر على سمعة تطبيق ميتا الأكثر انتشارا بين الشباب، وربما يفسر هذا أيضا اختيار تصميم “ثريدز” بناء على تقنيات إنستغرام، لأن أكثر من 70% من مستخدمي إنستغرام أقل من 35 عاما. (6)

في حال فشل تطبيق “ثريدز”، فلن تخسر الشركة كثيرا، على الأقل نحن حاولنا أن نجرب وفشلنا، ولكن إن نجح فسوف نكون قد قدمنا تطبيقا بديلا لتويتر، وتخلصنا من منافس قوي في هذا المجال، والأهم هذا المنافس الآن هو إيلون ماسك نفسه. انتصار ميتا، إن حدث، سيقدمها بوصفها شركة خارقة، بجاذبية تماثل جاذبية الكواكب، في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي ربما النتيجة التي تبحث عنها أكثر مما تبحث عن الإعلانات أو المكاسب المالية حاليا

aljazeera

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى