معركة ذي قار والكرامة العربية

Husam5 يوليو 2023آخر تحديث :
معركة ذي قار والكرامة العربية

زيدان كفافي

نعيش هذه الأيام الحرب الظالمة التي تشنها اسرائيل على مخيم جنين، ورفعنا ونرفع لأهالي المخيم ،من أهالي ومقاومين، القبعات لصمودهم وصدهم لهذا العدوان الغاشم. لقد صان هؤلاء الكرامة العربية كما دافع عنها أجدادهم في الجزيرة العربية، حين حاول امبراطور فارس “كسرى الثاني” الزواج من ابنة الملك العربي النعمان بن المنذر رغماً عنه. فكانت معركة ذي قار حين اجتمعت القبائل العربية ووضعت يداً بيد مدافعة عن الكرامة العربية، وحققت النصر على أقوى امبراطورية في تلك الفترة. وما بين ذي قار ومخيم جنين عقد على صون الكرامة العربية مهما كان العدو قوياً، والنصر حليف الحق بعون الله.

قبل الخوض في أسباب وتفاصيل معركة ذي قار، رأيت أنه من الفائدة أن نقدم معلومات حول التكوين القبلي للمجتمعات العربية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام. إذ تكون المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية من فئتين اجتماعيتين، هما: البدو (أهل الوبر)، والحضر (أهل المدر)، وكانت هاتان الفئتان على تواصل وتفاعل دائم فيما بينهما. وبرأينا أن طبيعة هذان المجتمعان قد حددتهما البيئة والطبيعة والمكان. وكما نعلم فإنه وحتى الوقت الحاضر لا تزال شبه الجزيرة العربية تعج بالمجتمعات البدوية المتنقلة وشبه البدوية أي نصف الرحل والاستقرار، إضافة لسكان القرى والبلدات والمدن. ونعلم أن الحد الفاصل بين البداوة والحضر هو طبيعة وكيفية المعيشة.

تتطلب طبيعة الحياة الصحراوية الصعبة من سكانها التضامن والتكافل بين أفرادها، وهذا يعني مساعدة الأخ لأخيه وبني جلدته. وكلما كانت القبيلة أكثر عدداً وعدة كانت قوتها وهيبتها بين القبائل الأخرى أعظم. لكن وحين زيادة عدد أفراد القبيلة بشكل كبير جداً تأخذ بالإنقسام التلقائي لتتشكل منها وحدات قبلية أصغر. والسبب في هذا اشتداد المنافسة على الزعامة وتنافر المصالح بين أفرادها.وتاريخ شبه الجزيرة العربية مليء بأخبار الحروب والمنازعات والأخبار التي وقعت بين هذه القبائل. كما كان في بعض الحالات أن تنضم القبيلة الضعيفة إلى أخرى أقوى منها لتضمن استمراريتها.لكن ما كان يجمع بين هذه القبائل هو اللغة العربية المشتركة، والعادات والتقاليد، لكن الولاء الأقرب كان للأسرة أو البطن قبل القبيلة، وكانت سلامة الفرد وحماية أمواله تتوقف على مقدار حماية القبيلة له. علماً أن طبقة التجار غلبت مصالحها التجارية على قبليتها.

لقد حكمت المجتمعات التي عاشت في الجزيرة العربية قبل الإسلام عوامل تماسك، وعوامل تفرقة، ومنها العصبية القبلية والثأر، كما حفظ لنا التراث العربي أخباراً للعلاقات العدائية بين القبائل العربية والمسماه “أيام العرب”. وكانت العرب في الجزيرة العربية قبائل شتى لم تعرف وحدةً سياسيةً ولا نظاماً شاملاً، لكل قبيلة نظامها، وكانت في الجزيرة مراكز تميزت عن القبائل المتبدّية بنوع من التحضّر، لكنها كانت مدعومةً من جهات خارجية، فكان المناذرة في العراق وولائهم لكسرى فارس، والغساسنة في الشام وولائهم للروم. فالمناذرة درع الفرس في وجه العرب، كما كان الغساسنة حصن الروم الأول في وجه العرب.

ساد في الجزيرة العربية قبل الإسلام أكثر من نظام سياسي، وهي: القبلي، والإمارات أو الممالك الصغيرة، والنظام الملكي. كان النظام في الحجاز قبلياً ورئاسياً، إذ أنه يقوم على قاعدة شعبية تتكون من جميع أفراد القبيلة أو القبائل. فشيخ القبيلة هو الرئيس.

معركة ذي قار

تمجد كتب التاريخ الإسلامي والعربي أحداثا عظيمة، مرصعة بالذهب في سجلات الانجازات والتاريخ الحافل. ومن بين الأحداث التاريخية التي تعتز بها قبائل العرب معركة “ذي قار”، التي صنفت كأعظم انتصار عربي على الفرس في وقت قريب من ظهور الإسلام، وهي المواجهة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنها :”ذاك يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا.

كانت العلاقات العربية الفارسية قبل الاسلام متأرجحة بين الحرب والسلم، ويمكن وصفها بالعلاقات التنافسية. نستطيع وصف العلاقة بين الفرس بأنها علاقة تشابكية وتنافسية في نفس الوقت، وسنة الحياة أن يسيطر القوي على الضعيف، وفي حالة تساوي القوى تسير الأمور بشكل سلمي. وهذا ما كان عليه الحال عبر العصور .وحسب معرفتنا لم يعثر ، حتى الآن، على كتابات أو وثائق تتحدث بشكل مباشر حول هذه العلاقة، ولا اطلاع لي على وثائق فارسيةتعود لفترة قبل ظهور الإسلام وتتعلق بهذا الشأن.

كسرى والنعمان الرابع

طلب كسرى من ملك الحيرة المنذر الرابع أن يرسل له ترجماناً للكتب بين العربية والفارسية، فأرسل له عدي بن زيد الذي كان أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، وبعد وفاة المنذر أمر كسرى بجمع النعمان وإخوته في مجلسه لاختيار وريثٍ لأبيهم في الحكم فقام عدي بن زيد الذي كان مقربًا من كسرى وعالمًا بما يحب ويكره بتقديم النصح للنعمان وتلقينه ما عليه فعله في مجلس كسرى كي يستطيع الفوز برضاه واسترعاء اهتمامه، إذ أنّ النعمان كان قد رضع وتربى في أهل بني زيد وهذا هو سر حب عدي بن زيد له ورغبته في توليه الحكم.

وعندما جمع كسرى النعمان وإخوته في مجلسه، قام النعمان بتنفيذ ما قاله عدي له مما جذب نظر كسرى إليه؛ فأصدر أمره في أن يتولى النعمان مُلك الحيرة بعد والده، الأمر الذي أثار حقد أخوته وسخطهم عليه، فدأبوا على زرع الضغينة في قلب النعمان ضد عدي بن زيد حيث ادّعوا أنّ عديًا يتباهى بأنّه السبب في وصول النعمان إلى الحكم وله عليه الفضل الكبير، الأمر الذي أثار غضب النعمان فأرسل وراء عدي بن زيد وزجّه في السجن. وعندما علم كسرى بذلك أرسل إلى النعمان آمرًا إياه بإطلاق سراحه، إلّا أنّ النعمان قام بقتل عدي بن زيد وأعطى رسول كسرى المال طالبًا منه أن يخبر كسرى أنّ عديًا كان قد مات قبل وصوله، إلّا أنّ النعمان ما لبث أن ندم على فعلته بعد أن علم أنّ ما قيل له عن عدي بن زيد ما كان إلا حيلةً للإيقاع به.
طلب كسرى ليد هند بنت النعمان بن المنذر ووالدهايرفض الطلب:

كانت البداية مع موقف النعمان بن المنذر، ملك الحيرة (مدينة تاريخية تقع في وسط العراق الحالي) في ذلك الوقت، حيث أصبح يتحامل على كسرى الثاني حاكم الفرس، ويرفض طلباته، ويلمح لإنهاء الرضوخ والولاء له، وتجلى ذلك في كثير من المحطات، على غرار رفض النعمان تزويج ابنته لكسرى، وارساله لرد محرج إلى كسرى، استفزه بانعدام الجمال والأصالة في النساء الفارسيات، حتى يلجأ إلى ابنته العربية ويطلب يدها، هذا الأمر أغضب كسرى كثيرا وجعله يضع أول لمسات المعركة بينهما.

بعد هذا، طلب كسرى، وأمر بقدوم النعمان له شخصيا، والذي كان يعرف أن نهايته قد اقتربت دون أي شك، فبدأ رحلة الهرب يطوف بين القبائل والعشائر، يحاول الاختباء والبحث عن حل لتجنب كسرى، وفي كل مرة لا يجد المكان المناسب الذي يحميه، فقرر الذهاب شخصيا إلى كسرى، بعد نصيحة من هانئ بن مسعود الشيباني.لكن تعرض النعمان إلى خيانة ومكيدة من طرف زيد بن عدي العبادي، الذي كان يلعب دور الرسول بينه وبين كسرى، وأخبره بمعلومات خاطئة وأكد له أنه لم يلقى سوءا في قصر كسرى، ولكن غدر به انتقاما لمقتل أبيه على يد النعمان نفسه.

اختلفت الروايات حول طريقة موت النعمان على يد كسرى، والمؤرخون يؤكدون أنه شرب السم رفقة أولاده ولقي حتفه، وآخرون يوثقون أن كسرى وضعه في السجن حتى أصيب بالطاعون ومات.ولم يكتف كسرى بقتل النعمان، وتعيين خليفته على الحيرة، وهو إياس بن قبيصة الطائي، بل بعث إلى هانئ بن مسعود الشيباني، حاكم بادية بنو شيبان التابعة لقبيلة بكر بنو وائل الشهيرة، يطلب منه التنازل على الأملاك والتركة التي أعطاها له النعمان أمانة عنده قبل رحيله لأول مرة من أجل مقابلة كسرى، وهنا كانت البداية ومفترق الطرق، فإما الخضوع وخيانة الأمانة وتسليم ودائع النعمان لكسرى بما فيها حريمه ونساؤه، وإما حفظ العهد والأمانة والقَبول بحرب مع كسرى وعملائه في الجزيرة العربية.

غضب كسرى ووجه جيوشه المدججة بالأسلحة والفيلة إلى منطقة “ذي قار”، وقبل أن تبدأ الحرب، جرت المراسلات بين بني شيبان وقبائل العرب، كما جرت المراسلات بين قبائل بكر نفسها، فجاءت الوفود من بني بكر بن وائل في اليمامة والبحرين، وكذلك طلب الأسرى من بني تميم عند بني شيبان منهن أن يقاتلوا معهم، واجتمع العرب واتفقوا على محاربة جيوش كسرى الرهيبة، فيما انسحبت قبائل أخرى ورفضت معركة “الإعدام المؤكد” كما كان يتوقعها الأغلبية. لكن كانت النتيجة مخالفة لهذه التوقعات، إذ انتصر العرب على الفرس فيها نتيجة لاتحادهم. ونعتقد أنه وعلى الأغلب أن السبب الأكبر وراء هذا التحالف لمجموعة من القبائل العربية في معركة ذي قار هو خضوع القبائل العربية للفرس ومعاملتهم معاملة الأدنى ودفعهم الجزية. ومن الآثار التي خلفتها هذه الحرب هو جعل حدود الدولة الساسانية التابعة لكسرى هدفًا لهجوم القبائل العربية، كما أنّ هذا الانتصار رفع المعنويات العربية وكسر هيبة الفرس في نظرهم.

وقد يسأل سائل، هل هناك آثار تدل على مكان المعركة، وحدوثها في نفس المكان الذي أشار إليه المؤرخين، للتأكد من هذه المعلومات؟

لم يستطع الباحثون حتى الآن تحديد الموقع الدقيق للمعركة ، وإن كان منهم من يعتقد أن معركة ذي قار قد وقعت في المنطقة المعروفة الآن باسم (بطحاء ذي قار) التابعة لمحافظة ذي قار والواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات، على الطريق الواصل بين مدينتي الناصرية والسماوة. والمنطقة مأهولة في الوقت الحاضر من عشيرتين عربيتين شيعيتين (آل غزي والبدور)، ومليئة بالمواقع الأثرية. وربما يكون موقع تل العبيد في بطحاء ذي قار هو مكان حدوث هذه المعركة (مجرد تخمين…!) بناء على العثور على بعض الآثار فيها مثل التماثيل.

وتضم محافظة ذي قار نحو 1200 موقع آثاري يعود معظمها إلى عصر فجر السلالات والحضارات السومرية والأكادية والبابلية والأخمينية والفرثية والساسانية والعصر الإسلامي، وتعد مدينة أور من أغنى المدن العراقية بالمواقع الآثارية المهمة، إذ أنها مكان ولادة النبي إبراهيم (عليه السلام) ، والله أعلم، وزقورة أور التاريخية، فضلا عن المقبرة الملكية، وقصر الملك شولجي ومعبد (دب لال ماخ) الذي يعد أقدم محكمة في التاريخ.

تل العبيد في منطقة البطحاء

تماثيل بشرية من محافظة ذي قار

لقد انتصرت القبائل العربية في هذه المعركة نتيجة لانتصارهم لقوميتهم وكرامتهم العربية ولمصالحهم المشتركة. كما كان لهذا الانتصار لاحقاً رد فعل إيجابي على الدولة الإسلامية المبكرة في الحجاز، وربما ، والله أعلم، أنها كانت محفزة لمهاجمة الامبراطورية الفارسية  والقضاء عليها من قبل الجيش الاسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص.

أهم المراجع:

إبن الأثير 2010، الكامل في التاريخ، ج1. الصفحة 10.

أبو فرج الأصفهاني، كتاب الأغاني، ج 24.

الويكبيديا

زيدان كفافي

الخاطرة 68

5/ 7/ 2023

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

تنويه