أبو عبيدة.. حينما تكون البلاغة من فوهة البندقية
افاق نيوز – يوم الجمعة الموافق 16 فبراير/شباط 2024، كانت مراسم “جاهة” في الأردن تمر بشكل طبيعي مثلها مثل كل الجاهات التي تجري كل يوم في البلاد. ذهب الشاب ليطلب يد فتاة من أهلها مصطحبًا أهله وعزوته. وبينما كان الحاضرون يتناقشون ويتعارفون استعدادًا لقراءة الفاتحة واستكمال مراسم الخطبة، توقف أحد الحاضرين ليقول بصوت عال “لا صوت يعلو فوق صوت أبي عبيدة”، إذ وصل خبر أن الناطق الرسمي باسم كتائب القسام قد بدأ في بث خطابه. التُقطت المقاطع المصورة لرجال الجاهة وهم جالسون وقد توقفوا عن كل شيء لينصتوا لكلمة الملثم.
حينها، كان قد مر 33 يومًا على آخر خطاب لأبي عبيدة، للدرجة التي دفعت المتابعين للتعبير عن خشيتهم من أن يكون قد استشهد، وقد كان هذا الخطاب بعد مرور 133 يوم على ما يصفه عدد من الخبراء والمراقبين بحرب الإبادة، التي شنها وما يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة. لقد طل أبي عبيدة بطريقته المعتادة الحاسمة، وقد كان لحديثه نفس الأثر الذي اعتاد أن يتركه في مستمعيه منذ بداية الحرب. أما اليوم، في السابع من يوليو/تموز، لم يتغير حجم الترقب والاهتمام بكلماته، إذ وفور إعلان الجزيرة عن بث كلمة مصورة قد حصلت عليها، حتى وطّن المتابعون أنفسهم لمتابعة ما استجد، مترقّبين أقواله وتصريحاته وإعلاناته. أما السؤال القديم المتجدد، هو كيف استطاعت أيقونة أبي عبيدة أن تظل راسخة وقادرة على التأثير إلى هذا الحد حتى بعد كل هذا الدمار الذي تسببت فيه آلة الإبادة الصهيونية؟
وهذا الأثر
قبل أكثر من 66 عاما، في السابع من أكتوبر/تشرين الثاني عام 1957، كانت القوات المظلية للاحتلال الفرنسي في الجزائر، التي اشتهرت بقسوتها المفرطة، قد اكتشفت أخيرا مخبأ بطل الثورة الجزائرية المقاوم “علي لابوانت” الذي دوَّخ الاستعمار. مباشرةً، وفي اليوم التالي، توجَّهت القوات الفرنسية نحو المنزل الذي كان يختبئ فيه رفقة مقاومين آخرين، وطلبت منه الاستسلام مقابل حياته. علي، الذي كان قد خطَّ وشما على جسده يقول “تقدَّم أو مُت”، رفض نداء جنود الاستعمار وفضَّل الموت مقاوما على الاستسلام، فنسفت القوات الفرنسية المنزل بأكمله وأردته شهيدا مع رفاقه. استشهد علي وهو مُصنَّف آنذاك “إرهابيا” من قبل الفرنسيين، وانضم إلى ركب أكثر من مليون ونصف مليون شهيد قدَّمتهم الجزائر على مدار أكثر من مئة عام في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
لم يكن علي يعرف حين فضَّل الموت على الاستسلام أنه بعد عام واحد من استشهاده، سترضخ فرنسا وسيعلن زعيمها آنذاك شارل ديغول في يونيو/حزيران 1958 عن رغبة فرنسا في المصالحة مع الشعب الجزائري والتفاوض مع المقاومين. ولم يكن علي ليتخيل أنه بعد أقل من 10 سنوات سيختار المخرج الفرنسي جيلو بونتيكورفو أن يحكي قصة الثورة الجزائرية من خلال قصة حياته، في واحد من أشهر الأفلام عالميا “معركة الجزائر”، وأنه في كل مرة ستخرج فيها المظاهرات في الجزائر على مدار العقود اللاحقة ستُرفَع صورة علي لابوانت هاتفة بأنها تريد الجزائر التي حلم بها علي وضحى لها شهيدا. هكذا هُم المقاومون من أجل قضايا التحرر الوطني العادلة، كلما أُمطِروا بالرصاص؛ علا ذكرهم بين الناس.
اليوم، نرى مشهدا مماثلا، فبينما تُصنف الدول الكبرى حركات المقاومة الفلسطينية باعتبارها منظمات إرهابية، وبينما تستعِر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، نرى أفئدة الناس تهوي إلى فلسطين، ليكتب الناس عربا وعجما على صفحاتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي عن حبهم للمقاومة وتقديرهم لرجالها. كان الحب والشوق يفيضان من الشارع في انتظار معرفة أول مقاوم كي يصب عليه الناس كل هذا التقدير. وبينما جلست الجماهير تنتظر “رسول المقاومة”، جاء أبو عبيدة، المتحدث العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ناقلا أخبار صمود المقاومة وانتصاراتها، فتحوَّل من متحدث إعلامي باسم حركة مسلحة، إلى رمز لكل مقاوم؛ إذ نجد صورته في مواقع الأخبار وعلى حسابات التواصل الاجتماعي وفي الغرافيتي في الشوارع وحتى في ساحات “أرقى جامعات العالم”.
قبل السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 كانت القضية الفلسطينية قد تأخرت على سلم أولويات العالم، إذ كانت اتفاقات التطبيع تجري على قدم وساق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت تأخذ خطوات في السنوات الأخيرة لإتمام صفقة تقضي على حقوق الفلسطينيين، بعد أن تراجعت حتى عن موقفها التاريخي بخصوص مدينة القدس ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس، اعترافًا منها بأحقية دولة الاحتلال بالمدينة.
وفي عصر يلهث فيه الجميع وراء الشهرة، جاءت النجومية الكاملة إلى ذلك الرجل المُلثَّم، الذي أصبحت شعبيته مع بداية الحرب -من دون منافس- بطول العالم العربي كله، رغم أن حدا لا يعرف وجهه الحقيقي وربما لن يعرفه أبدا، باستثناء أفراد قليلين من قادة المقاومة في غزة. فالرجل الذي يمشي بين الناس في القطاع بوجهه من دون أن يتعرف عليه أحد، يبدو في نظر الكثيرين مثل “الأبطال الخارقين” الذين يعيشون حياة عادية في الصباح، قبل أن يرتدوا أقنعة تخفي هوياتهم في المساء ليحاربوا “أشرار المدينة”، دون أن يرى الناس وجوههم الحقيقية، لكنهم يرون آثارهم فقط.
رأت الشعوب العربية مع اندلاع الحرب في أبي عبيدة ناطقا باسمها هي أيضا، إذ صعد نجم الرجل حتى صار انتظار خطاباته طقسا أساسيا في البلاد العربية، مع ارتباط عاطفي واضح به، تحوَّل معه إلى الأيقونة الأشهر للحرب منذ بدايتها. ففي مصر كُتِبَت لأبي عبيدة أغان شعبية، وفي الأردن توقف الشباب في الصالات الرياضية عن أداء التمارين لمتابعة خطاباته وأذاعت المساجد خطاباته بمكبرات الصوت، وفي لبنان أُضيف اسمه إلى أسئلة الامتحانات في المدارس، كما انتشرت صوره في شوارع بيروت وقد كُتب عليها “الناطق باسم الأمة”، وتنافس الأطفال في الجزائر على تأدية دوره في مسرحياتهم وألعابهم. وفي تركيا صار تقليد أبي عبيدة لعبة مفضلة للأطفال فضلا عن تعليق صوره في المقاهي. وقد انتشرت الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لأطفال من مختلف البلدان العربية وهم يتابعون خطاباته أو يقلدونه، وكذلك صور أخرى لمسنّين يقفون بإجلال رغم مرضهم وهم يُشاهدون خطابه احترامًا له.
أصبح أبو عبيدة أيقونة عربية، ومع ذلك تجاهل الإعلام الغربي ظاهرته عن عمد، فليس من الممكن أن تفوِّت الصحافة الأمريكية والأوروبية مناقشة ظاهرة شديدة الحضور مثل أبي عبيدة. وربما كان هذا تعلُّمًا من خطأ المؤسسات الإعلامية الكبير في تحويل الأيقونة الثورية اليسارية تشي جيفارا إلى رمز يغزو الثقافة الغربية في كل أرجائها، ويُستحضَر عند أي غضب أو انتقاد للرأسمالية والعولمة. ويشرح أستاذ القانون في جامعة ولاية أريزونا خالد بيضون، أن العالم في ظل الهيمنة الأميركية قد تم تكييفه على أساس التطبيع مع موت المسلمين، بينما يُنظر فيه إلى أي معاناة تلحق بالبيض بوصفها وضعا شاذا وغير مقبول، ومن ثم فحتى أعمال المقاومة والتحرر الوطني والبطولة، وإن اتسمت بكل الشرعية الأخلاقية، دائما ما يُنظَر إليها بريبة وخوف إذا قام بها مسلمون.
ويُذكِّرنا بيضون بما قاله رموز حركة النضال المدني في الولايات المتحدة مثل جيمس بالدوين ومالكوم إكس من أن العنف والبطولة يترادفان في اللاوعي الأميركي، إلا عندما يتعلق الأمر بالسود. فالعنف يُبرَّر باعتباره عملا بطوليا عندما تمارسه أجساد بيضاء (جدير بالذكر هنا مثلا المقاومة الأوكرانية)، بينما تُحرَّم “البطولة” على الأجساد السوداء والمسلمة حتى حين يسعون لتحقيق أهداف عادلة. ولذا فإن التعريف المفاهيمي الغربي في حالة المسلمين لا يكون بالفعل وإنما بالذات التي صاغها الغرب من خلال قوالبه مسبقا، فالمُلوَّن ليس بطلا مهما كانت عدالة قضيته، والمسلم ليس له بريق مهما كانت كاريزميته. ومن ثَمّ يكون الصمت الإعلامي الغربي عن ظاهرة أبي عبيدة مفهوما. فماذا سيقولون عنه للجماهير؟ هل سيقولون إنه شخص مجهول اكتسب شعبية جارفة في العالم العربي لأنه يتحدث باسم المقاومة المسلحة ضد احتلال بلاده؟
النجاح الإعلامي للمقاومة
لقد كانت البداية الحقيقية لقصة أبي عبيدة مع الشارع العربي في يونيو/حزيران 2006، حين أعلن عن نجاح المقاومة في تنفيذ عملية “الوهم المتبدد”، التي أدت إلى قتل جنديين من جيش الاحتلال، وجرح اثنين آخرين، وأسر الجندي جلعاد شاليط. وقد جاء خطاب أبي عبيدة بعد أيام من المقطع المُصوَّر الذي أبكى العَرَب للطفلة هدى التي أخذت تجري بين جثث عائلتها تنادي “يا بابا يا بابا” على إثر المجزرة التي ارتكبتها دولة الاحتلال في شاطئ منطقة بيت لاهيا، واستشهد جرّاءها الأب “عيسى غالية” وزوجته “رئيسة” وأبناؤهم الخمسة.
أتى صوت أبو عبيدة الحازم مُعلِنا عن نجاح عملية المقاومة أشبه بعناق مواساة للأمة العربية والإسلامية وإعلان صريح عن أن الكرامة لم تمت، وكأن خطابه يقول: “للبيت رب وللطفل أب”، وتتابعت الأحداث حتى وصلنا إلى حرب السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 التي تحوَّل معها إلى بطل الجماهير العربية، التي شعرت بأن هذا زعيمها الملهم الحقيقي الذي أرادته ولم تجده منذ سنوات بعيدة. بمعنى آخر، فإن رمزية أبي عبيدة لا تكمن في أنه متحدث بارع يمتلك ناصية التواصل الإعلامي بقدر ما تكمن في أنه كان تجسيدا في العقل العربي للمقاومين على الأرض ولسانا فصيحا لهم. إن ما جعل أبا عبيدة يكسب كل تلك الشعبية التي لم تكتسبها بالقدر نفسه بعض الكوادر السياسية للمقاومة، هو أن الشعب العربي استشعر في خطابه أنه ليس سياسيا بقدر ما رأى فيه شاعرا يعبر بموسيقى الكلمات عن الملحمة التي يخطها المقاومون في المعارك.
وربما تظهر هنا البراعة الإدارية للمقاومة، فسرعان ما تفهمت المقاومة أن أبا عبيدة قد تحوّل إلى رمز بحد ذاته وليس ناطقا عسكريا فحسب، وقد ارتبطت به الشعوب العربية كما لم ترتبط بأحد من قبل. ولذا احترمت المقاومة هذه المشاعر العربية فأجادت التعامل مع أيقونة أبي عبيدة، إذ حرصت من جهة على حياته حرصا كبيرا، ومن جهة أخرى حرصت على ألا يتم استهلاكه تماما حتى لا يفقد حضوره معناه، فأصبحت المقاومة تتخير اللحظة المناسبة لظهوره، بحيث يكون ظهوره نادرا فتزيد فاعليته، خاصة أن الكثير من العرب أصبحوا يعتبرونه دواءً قادرا على إشعال الأمل مهما بدت الليالي حالكة.
أصبح أبو عبيدة رمزا مؤثرا إلى حد أبعد بكثير من مجرد كونه الناطق العسكري. فهو أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لدى دولة الاحتلال، ورغم أن إعلان وزارة الخزانة الأمريكية أثناء هذه الحرب عن إصدار عقوبات بحقه قد أثار سخرية واسعة لأن العقوبات تكون متعلقة عادة بمصادرة وحظر ممتلكات الشخص أو مصالحه داخل الولايات المتحدة، وأبو عبيدة في النهاية رجل اختار أن يعيش وسط الحرب والتضحيات؛ فإن اهتمام واشنطن بإدراجه في قائمة العقوبات يعني انتباهها لأهميته.
جدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تهتم على الإطلاق بإدراج محمد سعيد الصحاف، على سبيل المثال، الذي أدار الحرب من ناحية نظام صدام حسين على المستوى الإعلامي وقت الغزو الأمريكي للعراق، في قائمة المطلوبين لديها ولم تهتم به كشخص ينبغي الانتقام منه أو تعقبه، ووفق روايته الشخصية فقد سلم نفسه للجيش الأمريكي ثم سُمح له بالمغادرة. لكن يبدو أن الأمر مع أبو عبيدة مختلفًا فهو أكثر من مجرد ناطق باسم نظام أو فصيل، وإنما بات رمزا شعبيا للمقاومة.
لا يعرف أحد معلومات وافرة دقيقة عن شخصية أبي عبيدة، فحتى القائد العام لكتائب القسام “محمد ضيف”، المطلوب الأول لدولة الاحتلال، نعرف بعض تاريخه، ويعرفه الاحتلال الذي اعتقله، وله صور قديمة نادرة. أما أبو عبيدة، فلا تتوفر حتى صور قديمة موثوقة للرجل في بداية حياته. فحين ظهر في البداية وبدأت شعبيته تتسع، تجاهلته إسرائيل، لكنه أصبح مع مرور السنوات من أهم المواضيع التي تتناولها البرامج التلفزيونية الإسرائيلية، وصارت كل خطاباته تُترجَم سريعا في وسائل إعلام الاحتلال. ومع تزايد اهتمام دولة الاحتلال بشخصية أبي عبيدة واعتباره أحد أهم المطلوبين في قوائم الاغتيالات لديها بسبب الحرب الإعلامية والنفسية التي يقودها، بدأت تل أبيب تنسج روايتها عنه وادَّعت أنها تعرف اسمه وصورته، كما زعمت أكثر من مرة في أعوام 2008 و2012 و2014 إنها قَصَفت منزله.
تذكر الرواية الإسرائيلية أيضا أن أبا عبيدة ينحدر من قرية “نعليا” التي احتلها الصهاينة عام 1948، وأن أسرته نزحت بعد النكبة إلى منطقة جباليا شمال شرقي غزة. وقالت الصحافة العبرية عام 2014 إن الرجل إلى جانب عمله القيادي في القسام يستكمل دراساته الأكاديمية في جامعة غزة، إذ يكتب رسالة الدكتوراه بعد أن ناقش رسالة الماجستير في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية تحت عنوان “الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام”، وهي كلها تفاصيل لم تثبت صحتها من أي جهة فلسطينية موثوق بها، وربما تكون جانبا من محاولة إعلام دولة الاحتلال نسج روايات لقدرتها النافذة على الوصول إلى معلومات عن رجال المقاومة، من دون أن يكون ذلك صحيحا فعلا. وسواء صحت المعلومات المتناثرة عن أبي عبيدة أو لا، فلن يتغير تعلُّق الجماهير به، النابع من كونه صوت المقاومة الذي امتزج بوجدانهم وأحيا آمالهم في الحرية والكرامة.
كيف أبدع أبو عبيدة في مهمته؟
أولت المقاومة الفلسطينية منذ عام 2005 أهمية متزايدة للدور الإعلامي. وقد اهتمت كتائب القسام منذ وقت مبكر بإنشاء دائرة الإعلام العسكري وقطعت أشواطا كبيرة في هذا الصدد، سواء بتطوير المحتوى وصياغته، أو بالتطوير التقني وتصوير العمليات العسكرية وغير ذلك. فقد خصصت القسام ميزانيات للإعلام، وقامت بتدريب كوادر إعلامية في معاهد تدريب محلية ودولية، كما شدَّدت على أهمية الإعلام في ميثاقها التأسيسي، وقالت إن الإعلام والفن أداتان شديدتا الأهمية للتوعية بالقضية الفلسطينية. وقد اختار إعلام القسام العسكري منذ بداية طوفان الأقصى أن تكون سمته هي الدقة والمباشرة والإيجاز، وهذا ما جعل ظهور الناطق العسكري أبي عبيدة أمرا منتظرا، لأن ظهوره يعني أن الحاجة قد اقتضت ذلك.
ولعل من الأسباب التي منحت أبا عبيدة كل هذه الشعبية، أنه لم يظهر بصفة سياسية على الإطلاق، وكان هذا خيارا ذكيا من المقاومة. فبينما تُجبِر الضرورة القادة السياسيين أحيانا على إعطاء رسائل متضاربة، أو حتى تغيير نبرات أصواتهم، اختارت المقاومة أن يكون أبو عبيدة دائما صوتا عسكريا فقط، لا يذكر ما قد يُفرِّق صفوف الشعب أو الأمة، بحيث يكون حديثه دائما حماسيا مرجعيته الإسلام والعروبة والكرامة الإنسانية، بلا خضوع أو تغيير. ولا يمثل أبو عبيدة في حديثه مصالح سياسية تتغير، وإنما يمثل صوتا أقرب إلى البندقية، صوت المقاومين الفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى الآن.
رغم صعوبة الموقف تحت نيران الاحتلال، فإن أبا عبيدة يأخذ في الاعتبار دائما كيفية التعامل النفسي بكلماته مع المستمعين العرب، مازجا بين الشحنة العاطفية واللغة الرصينة، بل والفكاهة والسخرية في بعض الأحيان. ولعل ذلك أحد المفاتيح المهمة لفهم العلاقة الاستثنائية التي تشكلت بين الملثم والشارع، إنه الاحترام المكوَّن من شِقيْن، أولهما الحرص على المشاعر، وثانيهما الصدق.
لطالما اعتاد العرب في العقود الماضية خطابات الزعماء المطولة، التي لا تخلو من دعاية لا تدعمها الحقائق. أما أبو عبيدة، فله طريقة أخرى: فهو واقعي تماما في حديثه ولا يميل إلى المبالغة. على سبيل المثال، تحدث أبو عبيدة في حوار له عام 2012 بوضوح عن ضعف قدرات المقاومة العسكرية مقارنة بقدرات جيش الاحتلال، وتحدث كذلك عن الصعوبة الكبيرة التي تفرضها طبيعة البيئة الجغرافية لغزة على المقاومة، فهي بيئة غير مساعدة على الدفاع العسكري. ومن جهة أخرى إضافة إلى الحرص على المصداقية والإنصاف في المعلومات، فإن خطابات أبي عبيدة موجزة ولا تتعدَّى في الغالب 15 دقيقة.
عادة ما تشتمل خطابات الرجل، الذي يُوصف بأنه رأس حربة الحرب النفسية على دولة الاحتلال، على تثقيف موضوعي بمجريات المعركة، ورسائل بلاغية دقيقة الصياغة للأطراف المختلفة، ولا تخلو كلماته أيضا من الرسائل ذات الطابع الساخر، وأشهرها حين قال: “إلى زعماء وحكام أمتنا العربية، نقول لكم من قلب المعركة التي تشاهدون ولا شك تفاصيلها عبر شاشاتكم، إننا لا نطالبكم بالتحرُّك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشكم ودباباتكم لا سمح الله”. وقد انتشرت لفظة “لا سمح الله” حينها بطول العالم العربي وعرضه مضربًا للمثل في سياقات التخاذل على مواقع التواصل.