مَفهوم العبودية الإختيارية .. يَجتاح العقلية العربية

Husam8 فبراير 2023آخر تحديث :
مَفهوم العبودية الإختيارية .. يَجتاح العقلية العربية

عوض ضيف الله الملاحمه

ليس كل من يؤلِّف كتاباً يُعتبر كاتباً ، او أديباً ، او مؤلِّفاً ، او حتى مثقفاً ، او متخصصاً في اي علمٍ من علوم المعرفة ، أبداً . المؤلِّف الحقيقي هو من يأسِرك مُنتجه ، ويحفِّزك للإطلاع عليه . أحياناً — وبفضل وسائل التواصل الإجتماعي — يَصِلك تسجيلاً لمتحدثٍ يقدِّم مُلخصاً عن مؤلَّف قيِّم بفيديو مختصر جداً ، لا تتعدى مدة مشاهدته بضع دقائق ، لكن براعة الإعلامي ، وقدراته المتميزة بتقديم مؤلَّفٍ متكامل خلال بضع دقائق قد تكفيك للإكتفاء والإستغناء عن قراءة الكتاب . وأحياناً يحفزك بشدة لدرجة انك تسعى للإطلاع على محتوى الكتاب على النِت ، بأسرع وقتٍ ممكن ، وأن صبّرك لا يُمهلك لحين البحث عن الكتاب وشرائه ، وقراءته بِنَهَم ، كحال الذي يتضور جوعاً ، وتضع بين يديه ، وأمام ناظريه أشهى طعام ، ويكون حلالاً زلالاً . وقد حصل معي ذلك مرات عديدة ، لكن إحدى المرات لا تُنسى ، حيث كنت طالباً في جامعة بغداد ، في سنة التخرج عام ١٩٧٥ ، وكانت أيام الإمتحانات النهائية قد بدأت ، وبعد تجاوزها أُصبِحُ خريجاً ، حيث وقع بين يدي كتاباً ثقافياً ليس له علاقة في تخصصي ودراستي الجامعية ، فأقبلت عليه بِنهم ، ولم أشعر بذلك الّا بعد ان ختمت الكتاب ، واذ بالساعة تُقارب الفَجر ، وبنفس اليوم يُفترض ان أُقدِّم إمتحاناً في إحدى مواد التخصص . وفي أيامنا تلك اذا ضاع عليك وقت الإمتحان فلا تعويض مطلقاً ، ولا ( make up ) ولا غيره ، حيث تُعتبر قد رسبت في تلك المادة بالتأكيد . أوردت ذلك لتبيان درجة الشغف عند المُطالِع النِهم .

وصلني فيديو من صديقي المهذّب الدكتور / عادل عبدالحميد الكركي ، مدته ( ٣ ) ثلاثة دقائق وربع الدقيقة ، يتحدث فيه الإعلامي المصري المتمكن السيد / محمد ناصر ، في برنامجه ( مصر النهاردة ) ، بإيجاز شديد ، وبليغ عن كتاب لكاتب فرنسي إسمه / إيتيان دي لابويسيه ، وترجمة الأستاذ / مصطفى صفوان ، وعنوان الكتاب ( العبودية المُختارة ) . يا له مِن مؤلِّفٍ عظيم ، أنتج مُؤلَّفاً يتناسب من عظمته !؟

شَدَّني الفيديو ، وشدهني عنواناً ، وفِكراً ، وتحليلاً ، ومحتوىً . شاهدته مراتٍ عديده ، وكتبت عنوان مقالي هذا ، وذهبت الى Google العظيم ، الجاهز للخدمات الأسرع من فورية ، وبدأت أبحث فتبين لي ان له عدة ترجمات ، وتعرفت على المؤلِّف ، فإذا هو مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة ، في فرنسا ، وكانت البداية ان نشر مقالاً بعنوان ( العبودية الطوعية ) ، عام ١٥٤٩ ، وكان عمره (١٨ ) عاماً فقط . وتحوّل المقال بعدها الى كِتاب بعنوان ( العبودية المُختارة ) . وكان محور تفكيره ينحصر في سؤالٍ مُحدد وهو : ( ما سِرّ رضوخ الناس للإستبداد ) !؟

وهنا سأكتفي بأن أنقل لكم ما أوجزه الإعلامي المبدع الأستاذ / محمد ناصر ، حيث يقول :— [[ عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل الأمد تنشأ أجيالاً من الناس لا تحتاج الى الحرية ، وتتوائم مع الإستبداد ، ويظهر فيه ما يمكن ان نسميه ( المواطن المُستقر ) . في أيامنا هذه يعيش المواطن المستقر في عالَم خاص به ، وتنحصر إهتماماته في ثلاثة أشياء ، هي :- الدِّين ، ولقمة العيش ، وكرة القدم . فالدّين عند المواطن المُستقر ، لا علاقة له بالحق ، والعدل ، وإنما هو مجرد أداء للطقوس ، وإستيفاء للشكل لا ينصرف غالباً الى السلوك ، فالذين يمارسون بلا حرج الكذب والنفاق والرشوة يحسون بالذنب فقط إذا فاتتهم إحدى الصلوات . وهذا المواطن لا يدافع عن دينه الا اذا تأكد انه لن يصيبه أذى من ذلك . وقد يتظاهر ضد الدنمارك عندما تنشر صوراً مُسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام . لكنه لا يفتح فمه بكلمة ، مهما بلغ عدد المعتقلين في بلاده ظلماً ، وعدد الذين ماتوا تحت التعذيب . لقمة العيش هي الركن الثاني لحياة المواطن المُستقر ، فهو لا يهتم إطلاقاً بحقوقه السياسية ، ويعمل فقط من أجل تربية الأطفال حتى يكبروا ، فيزوِّج البنات ، ويُشغِّل الأولاد ، ثم يحِج الى بيت الله إستعداداً لِحُسنِ الخِتام . أما في كُرةِ القدم فيجد المواطن المُستقر تعويضاً له عن أشياء حُرِمَ منها في حياته اليومية . كُرة القدم تُنسيه همومه وتُحقق له العدالة التي إفتقدها ، فخلال ( ٩٠ ) دقيقة هي مدة اللعبة ، تخضع اللعبة لقواعد واضحة وعادلة تنطبق على الجميع . المواطن المُستقر هو العائق الحقيقي أمام كُلِ تَقدُّمٍ ممكن ، ولن يتحقق التغيير الا عندما يخرج هذا المواطن من عالمه الضيق ويتأكد ان ثمن السكوت على الإستبداد أفدح كثيراً جداً من عواقب الثورة ضده . هذا بالمناسبة رأي الكاتب الفرنسي وليس رأيي — حسب قول الإعلامي المصري — وهو صاحب كتاب العبودية المُختارة . لا أود ان أُعقّب على الكتاب ، وإن كان بيني وبينك يا إبن عمي مُش رايح أكذب عليك ، أنا مِستِمَخْ منه . الدّين ، ولُقمة العيش ، وكُرة القدم الثلاثة عناصر هذه ، يمكننا القول ان المواطن المُستقر يَهرب اليها دائماً ويلجأ اليها خوفاً من بطش السُلطة ]]. إنتهى الإقتباس .

يُخيل لي ان هذا المؤلِّف شديد الذكاء ، سديد الرأي وكأنه يعيش بيننا في أقطارنا العربية المنكوبة ، التي ليس أمام شعوبها الّا التعايش مع عبوديتها التي تعايشت معها حتى إستمرأتها مُكرهةً ، ووجَدَتها — حسبما إعتَقَدَتْ خاطئة — بأنها الخِيار الأسهل لعيش حياة كريمة رغِدة بسلام ، ومع الأسف انها لم تحصل على شيء ، لا بل خسِرت كل شيء حتى الكرامة ، وما وجدَت حتى لقمة العيش ولو مغموسة بشيءٍ من كرامة ، فلا طالوا بَلحَ اليمن ولا عِنب الشام . ولم تُدرك الشعوب العربية ان الحقوق ، والحرية ، والكرامة ، والعدالة تُنتزع ، ولا توهب .

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

تنويه