عالم قديم بين الرمال.. رحلة البحث عن ممالك النوبة المفقودة

Tala18 أكتوبر 2022آخر تحديث :
عالم قديم بين الرمال.. رحلة البحث عن ممالك النوبة المفقودة

كان منتصف القرن الـ 19 ذروة علم المصريات. فقد حُلّت شفرة رموز اللغة الهيروغليفية، وتمكن الناس أخيرا من فهم ثراء الحضارة المصرية القديمة. وأصبحت الأهرامات والمومياوات والتماثيل كلها مثيرة للاهتمام ونابضة بالحياة.

لكن بعض علماء المصريات الأوروبيين شعروا أن أفضل الاكتشافات لم يأت بعد. فبينما كانوا يشقون طريقهم جنوبا، خامرهم اعتقاد بأنهم سيعثرون على آثار أقدم عمرا، وربما حتى اكتشاف مهد الحضارة المصرية.

النوبة ومصر القديمة

في هذه الأجواء، بدأ عالم الآثار الألماني كارل ريتشارد ليبسيوس رحلة استكشافية إلى وادي النيل، حيث وصل في 28 يناير/كانون الأول 1844 إلى منطقة مروي فيما يعرف الآن بالسودان ووجد أهرامات متناثرة. واستطاع بضوء شمعته فقط أن يستنتج أن الهياكل لم تكن قديمة بالقدر الذي كان يأمله. وأثناء تحقيقه أكثر، خلص إلى أنهم ليسوا مصريين، بحسب تقرير لمجلة “نيو ساينتست” (New Scientist) البريطانية.

رسم ليبسيوس لاحقا خطا فاصلا بين مصر القديمة والأشخاص الذين بنوا الأهرامات في مروي ممن ينتمون إلى حضارة منفصلة تسمى النوبة. وفي القرن التالي، حذا باحثون حذوه واعتبروا أن مصر دولة متطورة، وأن جارتها بلاد النوبة أقل تطورا. وبينما احتلت القطع الأثرية المصرية أماكن مرموقة في المتاحف، تم تجاهل الأعمال النوبية إلى حد كبير، بحسب المجلة البريطانية.

بيد أن تغيرا بدأ يطرأ على تلك التوجهات، إذ تعمل الأبحاث الجديدة على إخراج النوبة القديمة من الظل، ليصبح بالإمكان الآن سرد قصتها. فالنوبيون كانوا شعوبا متنوعة لها معتقداتها وعاداتها الخاصة بها. وبعيدًا عن كون بلاد النوبة منطقة منعزلة نائية، فقد تبادل النوبيون الأفكار والثقافات مع جيرانهم، بل حددوا اتجاهات الموضة لملوك مثل ملك مصر القديمة الذهبي توت عنخ آمون. وفي الواقع، لا يمكننا استيعاب تاريخ هذا الجزء من العالم القديم دون فهم كل من مصر وبلاد النوبة معا.

ويمكن القول إن مصر القديمة هي أشهر الحضارات القديمة، فهي تأسر الخيال بفراعنتها وكنوزها الرائعة. ذلك أن الحضارة المصرية، التي شملت على نطاق واسع ثلثي شمال مصر الحديثة، يُنظر إليها بحق على أنها مثيرة للإعجاب، في وجود نظام كتابة ومدونات قانونية وتنظيم مدني دقيق.

وتعد بلاد النوبة القديمة أقل شهرة، حتى أن القليل الذي كان يُعرف عن شعبها على مدى عقود يعود الفضل فيه إلى النصوص والأعمال الفنية المصرية. ومنها عرف العلماء أن النوبة كانت بلادا غنية بالموارد الطبيعية -بما في ذلك الذهب- التي كانت مطمعا لجيرانها في الشمال الذين كانوا يتحكمون فيها من حين لآخر.

على أن من الإنصاف القول إن كل وجهات نظر الباحثين خلال القرن الماضي لم تكن دقيقة. ورأى البعض منهم -تحت تأثير نظرة عنصرية واستعمارية- أن مصر باعتبارها قوة عظمى آنذاك استغلت جارتها الأضعف. ومع ذلك، فإننا ندرك اليوم أن تصوير النوبة بهذا الشكل ربما أعمان عن رؤية شخصيتها الحقيقية، ويعكف كثيرون الآن على البحث عن أدلة جديدة وإعادة النظر في القطع الأثرية القديمة.

وفي الموقع الذي كان قديماً مدينة مروي عاصمة مملكة كوش، توجد العديد من الأهرامات بارتفاعات متفاوتة ومقبرة ملكية عريقة تعرضت على يد اللصوص الأوروبيين للكثير من أعمال التخريب، وإلى الغرب هناك المدينة الملكية التي تضم أنقاض قصر ومعبد وحمام ملكي. يتميز كل مبنى بهندسة معمارية مستوحاة من الأذواق الزخرفية المحلية والمصرية واليونانية والرومانية، وهذا دليل على روابط مروي العالمية، بحسب تقرير سابق لمجلة سميثسونيان (Smithsonian) الثقافية.

نهوض النوبة

وفيما بدأ التركيز ينصب على الطبيعة الحقيقية لبلاد لنوبة القديمة، بات واضحا كم هو معقد تاريخ المنطقة. إن العديد من الباحثين اليوم يجادلون بأنه نادرا ما كانت هناك هوية نوبية مشتركة. فعلى الرغم من وجود بعض أوجه تشابه جامعة تجلت في الفخاريات التي كانت تنتجها بلاد النوبة القديمة، فإن الآثار شمالها يختلف عادة عن جنوبها، وكلتا المنطقتين تختلف آثارهما عن نظيراتها في المنطقة الصحراوية في النوبة الشرقية.

تباينات ثقافات النوبة

تقول آرون دي سوزا من الأكاديمية النمساوية للعلوم في فيينا، للمجلة البريطانية “هناك في بعض الأحيان 3 أو 4 ثقافات مختلفة تنشط في نفس الوقت”.

إن أول ثقافة ظهرت في بلاد النوبة القديمة، والتي بدأت حوالي 3800 ق.م، تلك التي يطلق عليها علماء الآثار باسم المجموعة (أ). نحن لا نعرف سوى القليل نسبيا عن أولئك القوم -ولا حتى كيف كانوا ينظرون إلى أنفسهم- لكننا اكتشفنا بعض الأعمال الفنية الصخرية والقبور التي تركوها وراءهم.

وبحلول عام 2500 ق.م، اختفت المجموعة (أ) وكان هناك ما لا يقل عن 3 مجموعات تعيش بالمنطقة. وظهرت ثقافة المجموعة (ج) التي تقوم على رعي الماشية، في الشمال. كانت هناك أيضا مجموعة من المزارعين الذين عاشوا في مستوطنات كبيرة تسمى حضارة كرمة بالجنوب. وكانت هناك مجموعة أخرى من الرعاة، لم يطلق عليها اسم، تتجول في الصحاري الشرقية، ويرجع إليهم الفضل في ظهور ثقافة سُميت باسم ثقافة القبور السطحية، حيث تميزت في الغالب بالقبور التي تركوها وراءهم.

كانت المجموعات الثلاث من النوبيين القدماء، لكن يبدو أن كلا منها كانت حريصة أيضا على تكوين هوية فريدة. وبدا هذا واضحا بشكل خاص في أفراد المجموعة (ج) كما تقول هنرييت هفساس من كلية فولدا الجامعية بالنرويج للمجلة البريطانية.

وبحلول عام 1800 ق.م، كانت أطراف من كوش تهاجم مصر. وكان من شأن ذلك أن يؤدي إلى هجمات مضادة من مصر، كما تقول هفساس، ووجد أفراد المجموعة (ج) أنفسهم عالقين في المنتصف بين قوتين مقاتلتين قويتين.

كان عليهم البحث عن تحالف من أجل الحماية. لكن البحث الذي أجرته هفساس السنوات الأخيرة يشير إلى أنهم لم يختاروا “زملاءهم” النوبيين من كوش. وخلصت، بعد تحليل الآثار النوبية والنصوص المصرية، إلى أن أبناء المجموعة (ج) انحازوا إلى جانب المصريين، واندمجوا بالنهاية في ذلك المجتمع إلى حد ما.

جيهاماو يتحدث

يبدو أن ما كان يُقصد به أن يكون نوبيا قديما اختلف باختلاف الأفراد أيضا. والدليل على ذلك لا يتطلب النظر إلى أبعد من جندي نوبي يدعى “جيهاماو” الذي وُلد حوالي عام 2050 ق.م.

والظن أن جيهاماو كان ينتمي للمجموعة (ج) وربما تلقى تدريبا ليصبح محاربا لحراسة قطعان العائلة. وفي ذلك الوقت، سافر العديد من أمثاله من الرجال إلى الشمال بحثا عن عمل بأجر جيد كمرتزقة في مصر، حيث تم تقدير مهاراتهم القتالية. وتضم إحدى المقابر المصرية -التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 2100 ق.م- تماثيل لرماة نوبيين.

وعلى عكس ما حدث في مصر، لم تكتب أي من الثقافات النوبية القديمة لغتها الخاصة بها.  لكن جيهاماو، الذي كان قريبا من الثقافة المصرية، ترك وراءه مواد مكتوبة، لعلها كانت من إنتاج كاتب نيابة عنه.

وتسجل النقوش على صخرة في صحراء النوبة الأفكار التي رواها عن حياته وإنجازاته. وقد قام جون دارنيل من جامعة ييل بتحليل نص جيهاماو قبل نحو 20 عاما، حيث يقول للمجلة البريطانية “إنه يقارن شجاعته بجبن القوات الأخرى”.

والأهم من ذلك، يعود الفضل إلى جيهاماو لكونه مقاتلا مهما ساعد الفرعون المصري منتوحتب الثاني على اكتساب قوة عظيمة -التي استخدمها بعد ذلك للسيطرة على مسقط رأس جيهاماو بالنوبة السفلى حوالي عام 2040 ق.م لفترة من الزمن.

ووفقا لدارنيل فإن النقش “رائع إلى حد ما” إذ يظهر أن بعض النوبيين قد تبنوا مصر وطنا لهم.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

تنويه