
القس سامر عازر
سؤال يتردّد في قلب الإيمان، لا بوصفه استفهامًا فلسفيًا مجرّدًا، بل كتجربة حيّة عاشها شعب الله عبر العصور: هل يَسِيرُ التاريخ وفق مصادفات بشرية عمياء، أم أنَّ يد الله القدير تعمل في عمق الأحداث لتُتمّم كلمته ومواعيده؟
النص الإنجيلي في لوقا الإصحاح الثاني (١–١٤) يقدّم لنا جوابًا لاهوتيًا عميقًا، لا عبر خطابٍ نظري، بل من خلال حدث تاريخي ملموس. فقرارٌ إمبراطوري صادر عن أوغسطس قيصر بالاكتتاب، بدا في ظاهره إجراءً إداريًا بحتًا، تحرّكه اعتبارات سياسية واقتصادية، يصبح في تدبير الله أداةً لتحقيق نبوءة إلهية أُعلنت قبل نحو ٧٥٠ عامًا على فم ميخا النبي.
يوسف ومريم لم يختارا بيت لحم عن قناعة لاهوتية أو بدافع نبوي، بل انقادَا بحكم الواقع والالتزام بالقانون. هكذا يعمل الله غالبًا: لا يُلغي حرية الإنسان ولا يعلّق التاريخ، بل يدخل إليه، ويجعل من قرارات البشر – حتى تلك التي تصدر عن أباطرة لا يعرفونه – جسورًا لعبور مقاصده الخلاصية. هنا نلمس سرّ التدبير الإلهي: الله لا يقف خارج التاريخ، بل يسكنه، ويحوّل قسوته أحيانًا إلى رحمٍ يولد فيه الخلاص.
قساوة الظروف في بيت لحم، الازدحام، انعدام الموضع، والمذود البسيط، ليست تفاصيل عرضية في رواية الميلاد، بل إعلان لاهوتي عميق. فالمسيح لا يدخل العالم من بوابة القوة والجاه، بل من هامش التاريخ، من مكان لا يُحسب له حساب. ومع ذلك، فإن هذا الهامش يصبح مركز الكون، والمذود يتحوّل إلى عرش، والضعف إلى قوة خلاصيّة. هكذا يُعيد الله تعريف المجد والسلطان، لا بحسب منطق البشر، بل بحسب قلبه.
وإذ لا يترك الله شعبه في عتمة الحيرة، يعطي الرعاة علامة. ليست علامة سماوية معقّدة، بل بسيطة ومتواضعة: «طفلًا مقمّطًا مضجعًا في مذود». إن العلامة التي يعطيها الله لا تُربك الإيمان، بل تدعوه إلى الثقة. فالله، الذي يقود التاريخ، يرافق الإنسان بعلامات ترشده إن كان قلبه مستعدًا للإصغاء.
والرعاة، هؤلاء البسطاء المهمّشون، يصيرون أول شهود تجسّد المحبة الإلهية بميلاد السيد المسيح، لأنهم وثقوا بالكلمة، وساروا وراء العلامة، فانفتح لهم المجد الإلهي وأضاء حولهم.
في هذا كلّه، نكتشف أنَّ الله ما زال يعمل بالطريقة ذاتها اليوم. قد تبدو أحداث حياتنا متشابكة، قاسية، أو غير مفهومة، لكن الإيمان يدعونا إلى النظر أبعد من ظاهر الأمور، إلى يد الله التي تنسج من خيوط التاريخ – حتى المؤلمة منها – معنى وخلاصًا. فكما استخدم الله مرسوم قيصر ليُتمّم وعده، هو قادر أن يستخدم أحداث زمننا الحاضر ليُجري كلمته فينا، إن وثقنا بحكمته وطرقه التي تفوق إدراكنا.
إن إله الميلاد هو إله التاريخ، وإله التاريخ هو إله الرجاء. هو الذي يدخل ازدحام العالم ليمنحنا سلامًا، ويدخل مذود فقرنا ليغنينا بنعمته. فلنثق بيده القديرة، ولنمشِ على ضوء علاماته، عالمين أن كلمته لا تسقط، وأن مواعيده تجد دائمًا طريقها إلى التحقّق، في الزمان الذي يراه هو صالحًا، ولخلاص الإنسان ومجده.








