منبر الكلمة

في الذكرى التسعين لميلاد الحسين… رجلٌ حمل وطنًا فأصبح وطنًا

 

عدنان نصار

في مثل هذا الأيام، يستيقظ الأردنيون على ذكرى ليست كباقي الذكريات؛ الذكرى التسعون لميلاد الملك الحسين بن طلال، طيّب الله ثراه، الرجل الذي لم يكن مجرّد قائد سياسي، بل ضمير وطنٍ وتاريخه الحيّ، وباني نهضته الحديثة، وصوت الأردنيين في أزمنة الشدّة والتحدّي.

الحسين، الذي حكم دولة صغيرة في الجغرافيا، كبيرة في دورها ورسالتها، كرّس عمره كلّه ليصنع للأردنيين مكانًا بين الأمم، ويبني دولة تتكئ على الشرعية والعدالة والانتماء. وفي كل منعطف من منعطفات المنطقة، كان الحسين عنوان الحكمة، ومرجع الاتزان، وصمام الأمان الذي لم يسمح أن ينكسر الوطن مهما اشتدّت العواصف من حوله.

وربما لم يخلّف الحسين وصية أبلغ من تلك التي قال فيها:
“تركتُ لكم الأردن أمانة في أعناقكم فحافظوا عليها ولا تخونوها.
فديناها بالأرواح والأموال والرجال، فلا تخذلوا الوطن فيخذلكم.”

هذه الكلمات لم تكن مجرد خطاب، بل دستور أخلاقي وسياسي يذكّر الأردنيين يومًا بعد يوم بأن الوطن ليس خريطة فحسب، بل مسؤولية مشتركة، وأن الدولة التي فُديت بالدمّ والعرق لا يليق بها إلا أن تُحمى بالإخلاص والعمل والعدل.

– حسين الإنسان… قبل حسين الملك

وإذا كان التاريخ يذكر زعماء صنعوا دولًا، فإن الأردنيين يذكرون الحسين بصفته إنسانًا قبل أن يكون ملكًا؛ قريبًا من الناس، يعرف الفقراء بأسمائهم، ويسمع مظالمهم بلا حواجز، ويشاركهم أفراحهم وأوجاعهم. كان يؤمن أن قوة الدولة من قوة إنسانها، وأن الكرامة ليست شعارًا سياسيًا بل حقًا حياتيًا لا مساومة عليه.

تحت قيادته، وُلدت مؤسسات الدولة الحديثة: التعليم توسّع، والصحة تطوّرت، والجيش تحوّل إلى مدرسة وطنية في الانتماء والانضباط، والدبلوماسية الأردنية أصبحت صوتًا للعقل في منطقة تنهشها الحروب.

– رسالة تمتد… وإرث لا يغيب

اليوم، وبينما يعبر الأردن مرحلة جديدة من التحديث السياسي والاقتصادي، تبقى وصايا الحسين وملامحه الإنسانية نبراسًا يُهتدى به. فالأردن الذي بناه الحسين ليس جغرافيا فقط، بل عقد اجتماعي قائم على المساواة، وولاء متبادل بين القيادة والشعب، وإيمان بأن الوطن أكبر من كل الاختلافات.

وفي هذه الذكرى، لا يقف الأردنيون عند الماضي بغصّة، بل يتذكّرون الرجل الذي عاش لغيره، ويرون في إرثه دعوة متجدّدة لحماية الدولة، وصون وحدتها، ومواصلة مشروع النهضة الذي بدأه.

رحم الله الحسين؛ رجل المواقف الصعبة، وباني الوطن الهادئ في وسط العاصفة.
وتبقى وصيته تُسمَع مع كل صباح: لا تخذلوا الوطن… فيخذلكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى