
فهرس المحتويات
إخفاء
د. شهاب المكاحله
في مشهد غير مسبوق في التاريخ السياسي السوري، دخل أحمد الشرع، المعروف سابقاً بأبي محمد الجولاني، إلى البيت الأبيض في زيارةٍ أثارت تساؤلات عميقة حول مسار النفوذ في دمشق، وإلى أي محورٍ ستنتمي سوريا في المرحلة المقبلة. ففي عالم السياسة الدولية، نادراً ما تكون الهدايا مجرد مجاملات بروتوكولية. فهي لغة موازية للدبلوماسية، تُستخدم لإيصال الرسائل حين لا تكفي الكلمات. هذا بالضبط ما حدث في اللقاء الذي جمع أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن — لقاءً حمل في تفاصيله الرمزية أكثر مما حمل في بياناته السياسية.
فمنذ عقود، كانت سوريا جزءاً أساسياً من “محور الممانعة” الذي تقوده طهران وتدعمه موسكو. نجح هذا المحور في إبقاء النظام قائماً خلال الحرب الأهلية، لكنه أدخل البلاد في عزلة دولية خانقة. اليوم، يبدو أن دمشق تحاول قلب الصفحة. فالشرع، الذي كان يوماً رمزاً للتشدد، أصبح يُقدَّم بصورة جديدة: ببدلة رسمية، بخطاب سياسي براغماتي، وبحضورٍ رسمي في واشنطن.
زيارة الشرع للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم تكن زيارة بروتوكولية، بل اختباراً سياسياً بكل معنى الكلمة. لم يُستقبل كرئيس دولة، بل كمرشح محتمل لمرحلة انتقالية تريدها واشنطن بديلاً عن النفوذ الروسي والإيراني في سوريا. الرسالة واضحة: الباب الأمريكي مفتوح، لكن بشروط. أهمها الانفصال التام عن طهران وموسكو، والانضمام إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش.
اللقاء جاء ثمرة تحرك دبلوماسي عربي نشط، قادته السعودية وقطر وتركيا، لإقناع واشنطن بفرصة “إعادة تأهيل سوريا” ضمن محور الاعتدال العربي. وقد رافق هذه التحركات قرار أمريكي بتجميد مؤقت للعقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر” لمدة ستة أشهر، ما يمنح دمشق فرصةً محدودة لالتقاط أنفاسها اقتصادياً.
سوريا تهدي العالم ذاكرته
الهدايا التي قدمها الشرع لمضيفه لم تكن عشوائية ولا فلكلورية، بل اختيرت بعناية لترسم سردية كاملة عن سوريا بوصفها مهد الحضارة. فقد أهداه: نسخة من اللوح الأوغاريتي، أول أبجدية مكتوبة في التاريخ (1400 ق.م) وختم أسطواني برونزي يمثل أول نظام ملكي وتجاري في التاريخ ونسخة من الترنيمة الحورية رقم 6 وهي أقدم نوتة موسيقية مكتشفة وتعرفة جمركية قديمة تعود إلى نحو 2500 ق.م. وتمثال نسائي صغير وقطعة مجوهرات ترمزان إلى الأنوثة والجمال في الموروث السوري القديم.
تلك المجموعة ليست مجرد تحف، بل بيان حضاري سياسي يختصر رسالة الشرع: سوريا كانت الأصل، ويمكنها أن تكون البداية من جديد. فالهدايا أعادت تقديم سوريا لا كدولة منهكة بالحروب، بل كجذر التاريخ الإنساني كله — الأرض التي نُحتت فيها أول الحروف وعُزفت فيها أول نغمة ووضعت فيها أول قوانين التجارة.
هدية ترامب: حين تتحول السياسة إلى علامة تجارية
في المقابل، كانت هدية ترامب عطره الشخصي “Victory 45/47” المرفق بتمثال ذهبي لقبضته المرفوعة. بسعر يقارب 500 دولار فقط، بدت الهدية متواضعة مادياً لكنها شديدة الرمزية من حيث طبيعتها الدعائية — منتج يحمل اسمه ويُسوَّق عبر موقعه الإلكتروني كعلامة انتصار دائمة.
أما دلالتها، فتكمن في كونها رسالة من أميركا العصر إلى حضارة الأمس: نحن لا نقدّس الماضي، بل نعيد اختراعه. وإذا كانت هدية الشرع تستحضر الطين والكتابة والموسيقى الأولى، فإن عطر ترامب يمثل القوة الحديثة المعبّأة في زجاجة، والانتصار بوصفه رائحة يمكن تسويقها.
الرمزية الدبلوماسية بين الذاكرة والبراند
تبادل الهدايا بين القادة ليس فعلاً شكلياً، بل تمرين على التوازن بين الاحترام والمنافسة. هنا، يمكن قراءة المشهد كصدام بين عالمين: عالم الشرع الذي يستحضر التاريخ والرموز والروح وعالم ترامب الذي يختصر القوة في السوق والذات والضوء الإعلامي. كأن اللقاء كان مباراة رمزية بين الحضارة والعلامة التجارية، بين من يصنع التاريخ ومن يصنع صورته.
بعض المراقبين قرأوا المشهد بعمق رمزي غير عابر. فالشرع قدّم رموزاً تتصل ببناء العالم القديم: الحرف، الختم، النغمة، القانون — وهي ذات المراتب التي تمثل في التراث الماسوني مفهوم خلق المعبد الإنساني: الكلمة، النظام، التناغم، القانون
رسائل تحت الطين والعطر
في الجوهر، أراد الشرع أن يقول: ها هي أسرار الحضارة، خذها وابنِ بها معبدك الجديد في سوريا. أما ترامب، فكان رده الضمني: وهذا رداء النور الأميركي، اغتسل به وادخل عالم النصر الحديث. هكذا، تحولت الهدية إلى نص موازٍ للدبلوماسية — نص يتحدث عن المكانة والهوية والشرعية أكثر مما يتحدث عن السياسة اليومية.
وحين رشّ ترامب العطر على الشرع أمام الكاميرات، رأى كثيرون في المشهد طقس “تطهير” أو “قبول” بل ” “غسل من ظلام الماضي إلى نور الشرعية الدولية، بل كأنه طقس انضمام رمزي يعيد سوريا إلى النظام الغربي من بوابة المظهر لا المضمون”.
وبغضّ النظر عن النوايا الحقيقية، فإنّ الصورة كانت مدروسة: الشرع قدّم أسرار الحضارة القديمة، وترامب ردّ عليه بطقوس القوة الحديثة.
ما وراء العطر والطين
إذا كانت زيارة الشرع إلى البيت الأبيض ترمز إلى عودة سوريا إلى المشهد الدولي، فإن هداياه كانت إعلان هذه العودة بلغته الخاصة. فهي ربطت الحاضر بالجذور، بينما حملت هدية ترامب توقيع المستقبل الأميركي القائم على الفرد والبراند.
في النهاية، يجتمع الاثنان عند حقيقة واحدة: أن القوة لم تعد تُقاس فقط بالسلاح أو التحالفات، بل بالقدرة على خلق رموز تبقى في الذاكرة.
فالعطر قد يتبخر، والطين قد يتشقق، لكن المعنى الذي يتركانه في الوعي السياسي يظل أعمق وأطول عمراً من أي اتفاق مكتوب








