عربي و دولي

سوريا تلغي تعيين المستشارين الحكوميين: “إجهاض تكنوقراطي” أم تصفية حسابات داخلية؟

آفاق نيوز – في خطوة مفاجئة أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية والإدارية، أصدرت الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية السورية قراراً يقضي بإلغاء كافة صكوك تعيين المستشارين في الإدارات الحكومية، في ما اعتبره مراقبون “إجهاضاً مبكراً” لمحاولة إدخال وجوه تكنوقراطية إلى دوائر القرار، وتخفيف اللون السياسي الواحد الذي طغى على الحكومة منذ تشكيلها.

وبرّرت الرئاسة القرار –الصادر بتاريخ 2 آب/أغسطس– بـ”ضبط التعيينات الإدارية” والحد من العقود غير النظامية، لكن مراقبين شككوا بالتبرير الرسمي، مرجّحين أن تكون الخطوة مدفوعة بخلفيات سياسية وأمنية، من بينها استقالة المستشارة سمة عبد ربه احتجاجاً على أحداث السويداء، وتسريب معلومات حساسة إلى وسائل إعلام دولية، على رأسها وكالة “رويترز”.


القرار رقم 3: من الإصلاح الإداري إلى القلق الأمني

نصّ القرار الذي وقّعه ماهر الشرع، الأمين العام لرئاسة الجمهورية وشقيق الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، على “إلغاء كافة الصكوك المتضمنة إسناد وظيفة مستشار في الإدارات المركزية والجهات التابعة لها، وكذلك كافة عقود الخبرة”.

ويأتي القرار بعد شهور من تعيين موجة من المستشارين في عدد من الوزارات، خصوصاً في القطاعات الاقتصادية، ما أثار حينها تفاؤلاً نسبياً في الأوساط الإصلاحية، واعتُبر محاولة لرفع مستوى الكفاءة عبر الاستعانة بخبرات مستقلة. من أبرز هذه التعيينات كانت سمة عبد ربه، التي عُيّنت مستشارة لوزير الاقتصاد، قبل أن تقدّم استقالتها في خضم التصعيد العسكري في السويداء، وتطلق تصريحات انتقادية حادة عبر منصاتها الخاصة.


من “المستشار” إلى “المتّهم بالتسريب”

مصادر رسمية وخبراء سياسيون ربطوا بين إلغاء التعيينات وبين تقارير صحافية غربية، خاصة تحقيق “رويترز” الذي كشف عن آليات سرية لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري بقيادة لجنة غير رسمية يديرها حازم الشرع، شقيق الرئيس الانتقالي. واعتُبرت تلك التسريبات إحراجاً بالغاً للقيادة، التي فُوجئت بكمية المعلومات المسرّبة، ما عزّز الشكوك حول دور بعض المستشارين في الوزارات الاقتصادية.

وفي هذا السياق، صدر بيان عن وزير الإعلام حمزة المصطفى هاجم فيه ما وصفه بـ”التأويل الإعلامي المغرض”، دون تسمية أي وسيلة إعلامية، وهو ما قرأه البعض كمؤشر على اهتزاز الثقة داخل الأجهزة العليا في الدولة، خاصة بعد تفاقم ظاهرة التسرّب الإعلامي.


“نصيحة لا تُؤخذ بها”… والمستشار لا يُستشار

رغم التكليف الرسمي، كشف عدد من المستشارين – في تصريحات لـ”النهار” – عن تجارب هامشية وشكلية داخل الوزارات. يقول أحد المستشارين القانونيين في وزارة سيادية إنه لم يلتقِ الوزير إلا مرة واحدة، وإن أغلب القرارات “تُمرر خارج النظام المؤسسي”، عبر مجموعات مغلقة على تطبيقات المراسلة.

من جهتها، تؤكد مستشارة اقتصادية سابقة أن الصفة الاستشارية “ليست ملزمة للوزير”، لكنها شدّدت على أن غياب الهيكلية التنظيمية والشفافية يفرّغ هذا الدور من محتواه، مشيرة إلى أنها “قدّمت مقترحات حيوية، بعضها نُفّذ، لكن الأكثرية أُهملت، خصوصاً ما يتعلّق بالحوكمة وإعادة هيكلة الدعم”.

ويعلّق الباحث السياسي محمد العلبي على ذلك بالقول إن القرار “لا يُقرأ كخطوة إدارية طبيعية”، بل هو انعكاس لـ”قلق السلطة من تحوّل النصيحة إلى تمرّد ناعم”، معتبراً أن المستشارين – رغم دورهم المحدود – كانوا يُشكلون نافذة لاحتمالات التغيير داخل بنية سياسية منغلقة.


من التكنوقراط إلى اللون الواحد مجدداً

منذ تشكيل الحكومة الانتقالية في آذار/مارس الماضي، راجت توقعات بتحوّل نسبي نحو “التكنوقراطية” عبر إدماج شخصيات مستقلة في مواقع التأثير. لكن القرار الأخير يعكس، بحسب مراقبين، عودة حادة إلى المركزية الصارمة، وإغلاقاً لمساحات المناورة داخل الجهاز الإداري.

ويختم العلبي بالقول: “ما نشهده اليوم هو استكمال لعملية تفريغ المؤسسات من الداخل. الوزارات تُدار من خارجها، والمستشارون يُقصون، والمعلومات تُحتكر في دوائر ضيقة. إنها عودة متجددة إلى النظام الذي يتعامل مع الدولة كمجموعة واجهات، لا كمؤسسات ذات سيادة واستقلال”.


خلاصة: الاستشارة لا تبني الثقة… والشفافية هي الغائب الأكبر

إلغاء صكوك تعيين المستشارين لا يبدو قراراً فنياً بحتاً، بقدر ما يعكس مناخاً عاماً من الارتياب والاحتراز الأمني داخل الدولة السورية. ومع غياب الأدلة العلنية على التسريبات، تبقى أزمة الثقة بين القيادة والإدارات هي الجذر الحقيقي، لا التعيينات ذاتها.

ففي ظل هياكل مغلقة ومراكز قرار لا تخضع للمساءلة، تظل كل مبادرة إصلاح –حتى عبر مستشارين مستقلين– رهينة قرارات فوقية تخشى من أي رأي لا يمر عبر “الفلتر السياسي”. وفي مثل هذا المناخ، تبدو الحكومة الانتقالية وكأنها تحصّن نفسها لا ضد الفشل، بل ضد الاحتمال الوحيد للنجاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى