منبر الكلمة

سوريا بين نظامين… ولغز سقوط لم يُفك بعد.. ومقاومة شعبية تبدأ

د. شهاب المكاحله

على الرغم من مرور عام على تغيّر السلطة في دمشق، ما يزال السوريون يطرحون السؤال ذاته: لماذا بقي لغز سقوط النظام السابق عصيًّا على الفهم؟ ولماذا يبدو أنّ ما أتى بعده لا يقلّ ارتباكا ولا فوضوية عمّا سبقه؟ هذا التساؤل يتردّد اليوم على ألسنة سياسيين ومعارضين وناشطين، ويكشف حالة الغموض التي ما زالت تهيمن على المشهد السوري.

يعتقد جزء كبير من السوريين أنّ ما حدث لم يكن إسقاطًا لنظام، بل عملية “تسليم وتسلم” صامتة لعبت فيها أطراف داخلية وخارجية دورًا حاسمًا. فالرواية التي تتردّد عن دخول طرف ثالث — أحمد العودة — إلى دمشق ليلة السقوط، ثمّ اختفاء المسار الحقيقي للأحداث، تعزّز الانطباع بأنّ الأمر كان ترتيبا سياسيا أكثر منه تحوّلا ثوريا.

ومع وصول السلطة الجديدة بقيادة أحمد الشرع (المعروف الجولاني)، بدا واضحا أنّ البلاد لا تدخل مرحلة استقرار، بل مرحلة سلطة هشّة تعيش على الاستعراضات العسكرية والرمزية بدل المؤسسات.

ظهور الشرع باللباس العسكري في الذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق لم يكن رسالة إلى الخارج بقدر ما كان رسالة إلى الداخل: “نحن هنا، ونحن القوة الحاكمة”

لكنّ هذا الخطاب التصويري لا يخفي حقيقة أن السلطة الجديدة تعتمد على توازنات غير ثابتة، وضغوط خارجية متناقضة — بين الولايات المتحدة وتركيا وروسيا —وتفتقر إلى قاعدة شعبية صلبة في دمشق وحلب، وهما مركزا الثقل التاريخيان لأي سلطة سورية.

والسوريون يعرفون ذلك جيدا؛ فمشاهد الازدحام والاحتفالات المفتعلة لم تستطع إخفاء استمرار الإضرابات في عدة محافظات، وغياب أي اعتراف شعبي واسع بالسلطة الجديدة.

من أخطر ما يواجه سوريا اليوم أنّها تحوّلت من دولة ذات وزن إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية. فالسلطة الجديدة نفسها، كما يصفها منتقدوها، تتأرجح بين ضغط الأميركي والتركي والروسي والأوروبي وتقلبات الدعم العربي، ولا تمتلك قرارا حاسما في أي مسار.

وبهذا المعنى، لم يعد المشهد السوري قابلا للتنبؤ، لأن مركز القرار لم يعد في الداخل، بل في غرف القوى الدولية والإقليمية التي ترى في سوريا “ورقة” لا “دولة”.

توقيت نشر تسريبات بشار الأسد الأخيرة كان جزءا من محاولة إعادة تشكيل الوعي العام قبل صعود السلطة الجديدة إلى المشهد العسكري. ورغم تشكيك كثيرين بصحتها، إلا أنّ تأثيرها كان سياسيا أكثر منه تقنيا: إضعاف إرث النظام القديم لتمرير النظام الجديد.

لكن الردّ الشعبي لم يكن كما توقّعت السلطة، إذ زادت التسريبات من الشعور بأنّ سوريا انتقلت من فوضى إلى فوضى، لا من نظام إلى نظام.

تاريخيا، تعرف كل الأنظمة السورية أنّ سقوط دمشق وحلب معا يعني نهاية أي سلطة. واليوم، مع خروج المدينتين من حالة الولاء القسري، يبدو أن السلطة الجديدة تواجه التحدي الأخطر: انهيار حواملها الاجتماعية في أهم مركزين حضريين.

ولهذا يتوقع كثيرون أن الخلخلة القادمة لن تكون أمنية فقط، بل سياسية واجتماعية، وقد تعيد رسم المشهد من جديد.

فرغم محاولة بعض الأطراف تصوير الصراع كصراع طائفي، فإنّ التحليل الأكثر هدوءا يشير إلى أنّ مستقبل السلطة الحالية يتوقف على موقف الطبقة السنيّة الوسطية في دمشق وحلب، وبالأخص التيارات الأشعرية والمتصوفة التي بدأت تتحرك بهدوء لتنظيم حضورها المجتمعي والسياسي.

هذه القوى — إذا نظمت نفسها — قد تصبح العمود الفقري لأي مرحلة انتقالية لاحقة، بعيدا عن الاستقطاب بين السلفية السياسية والسلطة العسكرية.

حديث بعض المعارضين عن تمدّد “المقاومة الشعبية” في الجنوب، وعن تشكيلات غير معلنة، يكشف أنّ الجبهة الجنوبية قد تعود إلى الواجهة، ليس كأداة بيد السلطة، بل كظاهرة محلية تستعيد دورها الذي انحسر منذ عام 2018.

ومع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان، ورفض حكومة نتنياهو الانسحاب، تبدو المنطقة مرشحة لمرحلة صراع جديد، لكن هذه المرة بوجود أطراف سورية محلية خارج سيطرة السلطة الجديدة.

وفي الختام، فإن سوريا لم تستقر لأنها لم تختر بعد. فبعد عام على السقوط، يظهر المشهد السوري كما يلي: نظام قديم سقط من دون أن يُكشف لغز سقوطه وسلطة جديدة لا تملك شرعية شعبية ثابتة ودولة ممزّقة القرار بين قوى الخارج وشعب يعيش بين الإضراب والمقاومة والبحث عن أفق سياسي جديد.

وحتى الآن، لا يبدو أنّ سوريا دخلت مرحلة “ما بعد النظام”، بل ما زالت تدور في فراغ السلطة — الذي قد يستمر إلى أن تتبلور قوة وطنية سياسية أو اجتماعية قادرة على فرض مسار جديد.

كاتب اردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى