د. شهاب المكاحله: شرقٌ يُعاد بناؤه فوق الركام: سوريا بوابة إعادة رسم النفوذ من المتوسط إلى قزوين

د. شهاب المكاحلة
في لحظة تاريخية تتبدّل فيها خرائط النفوذ كما لو أنّها رمال الصحراء، تبدو سوريا اليوم أكثر من مجرد ساحة صراع؛ إنها منصة إعادة هندسة المجال الاستراتيجي من شرق المتوسط إلى بحر قزوين. ما يجري ليس صراعا على الحدود أو الحكومات، بل على قواعد اللعبة ذاتها: من يقرر من يحكم، ومن يمر، ومن يُمنع من المرور، ومن يمتلك حق تحويل الجغرافيا من أراض إلى مفاصل طاقة وأمن ونفوذ.
الوجود الأمريكي الكامل في قواعد سوريا
يخطئ من يظن أن الوجود الأمريكي في سوريا مؤقت أو ظرفي. واشنطن تحولت من استراتيجية “الانسحاب من الحروب اللانهائية” إلى استراتيجية “التموضع الذكي” في نقاط حرجة تتيح لها الضغط والتحكم وإدارة التوازنات دون تكلفة احتلال شامل. قواعد شرق الفرات والتنسيق العسكري في “التنف” ليست فقط لحماية “قوات شريكة” كما تقول الخطابات الرسمية، بل لإبقاء اليد الأمريكية على زر الطاقة الإقليمي وخنق أي محور يريد وصل العراق بسوريا فالبحر المتوسط. إنها سياسة التحكم بالممرات الحيوية لا المدن، وبالمعابر لا الشعوب.
هذه القواعد تشكّل مكابح استراتيجية ضد التمدد الإيراني، وأدوات ضغط مستمر على روسيا، وبوابة أمنية لإسرائيل، وفي الوقت ذاته منصة تفاوض مستقبلية: عندما تُكتب خرائط ما بعد الحرب، سيكون على الجميع المرور عبر واشنطن أو على الأقل أخذ مصالحها في الحسبان. بهذا المعنى، الوجود الأمريكي في سوريا اليوم ليس مجرد وجود عسكري؛ إنه عقد ضمانات جيوسياسية تتجدد مع كل أزمة.
تقاسم نفوذ إسرائيلي-تركي
في المشهد السوري، تتقاسم أنقرة وتل أبيب هوامش حركة تواطئية أكثر منها تنافسية. تركيا تمسك الشمال عبر حزام نفوذ أمني وديموغرافي، وإسرائيل تمسك السماء عبر تفوق جوي يسمح لها بضرب ما تشاء دون حسابات سياسية عميقة. إسرائيل تُبقي إيران في حالة نزيف دقيق ومدروس، وتركيا تُبقي الأكراد في حالة ضغط يمنع قيام كيان يُقلق أمنها القومي ويُربك توازنات الأطلسي.
ليس تحالفا مُعلنا، لكنه تفاهم غير مباشر تُباركه واشنطن وتستفيد منه موسكو: فتركيا تحرس بوابة الناتو شرقا، وإسرائيل تحرس سقف الأمن الاستراتيجي غربا. وبينهما تبقى دمشق محاصرة ضمن حدود نظام يسمح له بالبقاء لكنه مُنع من النهوض أو إعادة بناء الدولة. سوريا تُترك دولة وظيفية منخفضة الطاقة السياسية، أشبه بمستودع ملفات معلّقة بانتظار التسوية الكبرى.
تحييد حزب الله
ربما يكون التطور الأكثر حساسية هو المسار التدريجي لتحييد حزب الله عن المعادلة السورية. الحزب الذي دخل الحرب بطلب استراتيجي من دمشق وطهران لم يعد بنفس الثقل الميداني ولا الزخم السياسي. اليوم يجري دفعه نحو حدود داخلية أكثر لبنانية، وإخراجه من دور الإسناد الإقليمي المفتوح. الأداء العسكري الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، والإيقاع الأمريكي-الإسرائيلي في فرض خطوط حمراء على تحريك الصواريخ أو تكريس وجود ثقيل في الجنوب السوري، كلها تشير إلى هدف واحد: تقليص دور الحزب في مسرح كان جزءا من منطق “وحدة الجبهات”
التحييد لا يعني الإلغاء، بل التحويل: من فاعل إقليمي إلى فاعل محلي مضغوط، ومن رأس حربة مشروع إقليمي إلى ورقة تفاوض في أي ترتيبات تخص لبنان وسوريا وإيران على حد سواء. إنها المرحلة السياسية للضغط بعد انتهاء المرحلة الميدانية للحرب السورية.
إعادة هندسة التحالفات من المتوسط إلى قزوين
ما يجري في سوريا ليس معزولاً. إنه جزء من إعادة تركيب نظام إقليمي جديد يمتد من المتوسط إلى قزوين، تشارك فيه الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل وروسيا وإيران، وكل منهم يسعى لتثبيت موقعه قبل أن يبدأ زمن توزيع العقود والممرات.
واشنطن تريد نفوذا طاقوياً يربط الخليج بالمتوسط دون هيمنة صينية أو روسية.
تركيا تريد أن تكون بوابة أوراسيا وراعية الطريق التجاري من آسيا إلى أوروبا.
إسرائيل
تريد شرق أوسط مُحايد عسكريا تجاهها ومفتوحا اقتصاديا أمامها.
- روسيا تسعى لتثبيت موطئ قدم طويل الأمد في المتوسط رغم استنزافها في أوكرانيا.
- إيران تريد الحفاظ على خطوط إمدادها، ولو بحدها الأدنى، لتبقى رقما صعبا في المعادلة.
النتيجة ليست سلاما ولا حربا، بل نظام “الصفقات المؤقتة” و”الممرات المحسوبة” و”الحلفاء القابلين لإعادة التشغيل”.
وفي الختام، سوريا اليوم مختبر هندسة توازنات عالمية، وليست فقط دولة خرجت من حرب. الأمريكيون باقون بالوقائع لا بالتصريحات، وإسرائيل وتركيا تتحركان وفق هندسة نفوذ متقابلة تحفظ لهما حدود المصالح، وحزب الله يُعاد ضبط مكانته الإقليمية تدريجيا، والعالم يعيد تشكيل شبكة تحالفاته على إيقاع صراع لم يعد شرقاً أوسطياً صرفاً، بل أوراسياً روبوتياً، تعمل فيه الجغرافيا كخريطة موارد وبيانات لا حدود سياسية.
من المتوسط إلى قزوين، نحن أمام شرق جديد يُكتب، لكنه ليس الشرق الذي بشّر به دعاة “الشرق الأوسط الكبير”، ولا الشرق الذي حلم به محور المقاومة، ولا الشرق الذي بشّرت به ثورات الشعوب. إنه شرق التوازن بالقوة والوجود المتدرج، شرق يفرض على كل لاعب أن يصنع لنفسه مقعدا قبل أن يجد نفسه خارج القاعة.
وفي هذا الشرق الجديد، سوريا ليست مجرد ساحة… إنها المفتاح، أو على الأقل صالة الانتظار التي لن يخرج منها أحد دون أن يُقدّم أوراق اعتماده للعبة الجديدة.








