منبر الكلمة

حين يُغتال الصوت… ويُفضَح الخذلان

حين يُغتال الصوت… ويُفضَح الخذلان
في استشهاد الناطق الإعلامي أبو عبيدة

عدنان نصّار

في الحروب الكبرى، لا يُقاس الموت بعدد الضحايا فقط،
بل بما يكشفه من حقائقٍ مؤلمة عن الأحياء.
استشهاد الناطق الإعلامي أبو عبيدة ليس حدثًا معزولًا في سياق دموي طويل،
بل لحظة كاشفة،
تعرّي ما تراكم من صمتٍ عربي،
وما استقرّ من خذلانٍ جماعي،
وما صار يُدار همسًا بدل أن يُقال جهرًا.
لم يكن أبو عبيدة مجرد ناطقٍ باسم مقاومة،
بل مرآةً قاسية لواقعٍ عربي مأزوم.
صوتًا خرج من قلب النار،
في وقتٍ انسحبت فيه أصوات كثيرة إلى المنطقة الرمادية:
لا هي مع الحق بوضوح،
ولا هي قادرة على مواجهة الباطل.
في هذا الفراغ، اكتسب صوته ثقله.
كان حضوره، بكل ما أثاره من جدل، تذكيرًا مزعجًا بأن هناك من ما زال يصرّ على تسمية الأشياء بأسمائها،
في زمنٍ صار فيه التلاعب بالمصطلحات سياسة،
والصمت مهارة،
والحياد ترفًا أخلاقيًا مريبًا.
وحين يُغتال هذا الصوت،
لا يكون السؤال: من أطلق النار؟
بل: من تركه وحيدًا إلى هذا الحد؟
فالخذلان، في حقيقته، ليس فعلًا واحدًا،
بل تراكم طويل من الصمت،
والتطبيع مع العجز،
وتبرير اللاموقف،
حتى يصبح الدم خبرًا،
والاستشهاد رقمًا،
والقضية عبئًا لغويًا في نشرات الأخبار.
استشهاد أبو عبيدة يفضح هذا كله دفعة واحدة.
يفضح المسافة الهائلة بين الشعوب وواقعها الرسمي،
بين وجدان الشارع وحسابات السياسة،
بين ما يُقال في الغرف المغلقة وما يُدفن تحت الركام.
لقد كان الصوت الذي لا يملك ترف التراجع،
ولا مساحة المناورة،
ولا مظلة الحماية.
صوتًا يعرف أنه مكشوف،
لكنه يتكلم على أي حال.
وهنا، يصبح الاستهداف أكثر وضوحًا في معناه:
ليس إسكات فرد،
بل محاولة إسكات تذكير دائم بالخجل.
الخجل من أن هناك من يقف في خط النار،
بينما يقف آخرون في صفوف الانتظار.
من يدفع الثمن كاملًا،
بينما يتقاسم الآخرون لغة البيانات.
لكن التاريخ — على قسوته — لا يمنح الخذلان براءة.
فالأصوات التي تُغتال لأنها قالت ما لا يُراد قوله،
تتحوّل بعد غيابها إلى أسئلة لا يمكن إسكاتها.
لماذا كان وحيدًا؟
ولماذا صار صوته، بكل محدوديته البشرية، أثقل من جيوش إعلامية كاملة؟
ولماذا بدا، عند كثيرين، آخر من يتكلم بلغة اليقين،
في زمن الشك المؤسسي؟
استشهاد أبو عبيدة ليس نهاية خطاب،
بل بداية محاكمة صامتة لمرحلة كاملة:
مرحلة تواطأ فيها الصمت مع الخوف،
وتحالفت البراغماتية مع اللامبالاة،
حتى صار الدم تفصيلًا في مشهدٍ أكبر.
في هذه اللحظة، لا يكفي الرثاء.
ولا تكفي الكلمات الثقيلة.
ما يُطلب هو مواجهة السؤال الأصعب:
ماذا يعني أن يُغتال الصوت،
بينما الخذلان… ما زال حيًا؟
قد يُغتال الجسد،
وقد يُسكت الصوت،
لكن الفضيحة الأخلاقية التي كشفها هذا الغياب
ستبقى.
وستبقى تلاحقنا،
كلما تذرّعنا بالحكمة،
أو اختبأنا خلف اللغة،
أو أقنعنا أنفسنا
أن الصمت كان الخيار الأقل كلفة..
الصمت لإرضاء أهواء قتلة أنبياء الله ..وأعداء الإنسانية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى