
بقلم: د. ثروت الحلواني
أثار إعلان معالي وزير الداخلية الأردني عن مبادرة لتنظيم “العادات الاجتماعية” نقاشًا واسعًا بين المختصين في القانون والمجتمع، لما تنطوي عليه من تدخل مباشر في ممارسات تُعد جزءًا من الهوية الثقافية الأردنية، كالأعراس والجاهات والعطوات والولائم.
وتهدف المبادرة – وفق ما صدر عن وزارة الداخلية – إلى الحد من مظاهر التباهي والإسراف، وتنظيم الممارسات العشائرية بما ينسجم مع المصلحة العامة والنظام العام.
لكن هذا التوجه يثير تساؤلات قانونية واجتماعية حول مدى مشروعيته، وحدوده، وآثاره على الحريات الفردية والعرف الاجتماعي.
أولًا: الإطار القانوني للمبادرة
1. السند القانوني
تعتمد المبادرة على صلاحيات وزارة الداخلية في تطبيق قانون منع الجرائم، وتنظيم الممارسات التي قد تمس الأمن والنظام العام.
ويُعدّ “النظام العام” في الفقه القانوني الأردني مظلة تتيح للدولة التدخل في بعض الأنشطة الخاصة متى تجاوزت حدود المعقول وأضرت بالمجتمع، وهو ما يمنح الوزير مساحة قانونية للتوجيه، لا للتقييد.
2. المشروعية الدستورية
الدستور الأردني نصّ في المادة (7) على أن “الحرية الشخصية مصونة”، وفي المادة (15) على أن “لا يُقيَّد أحد في ممارسة حقوقه إلا وفق أحكام القانون”.
وبالتالي، فإن أي تدخل في العادات الاجتماعية لا يكون مشروعًا إلا إذا:
• استند إلى نص قانوني صريح ومحدد صادر عن السلطة التشريعية.
• راعى مبدأ التناسب بين الغاية والوسيلة.
• لم يُفضِ إلى تمييز أو تقييد غير مبرر للحريات الشخصية أو الجماعية.
3. التمييز بين التنظيم والتقييد
هناك فارق جوهري بين تنظيم السلوك الاجتماعي وتقييده.
فالتنظيم يُقصد به وضع معايير توجيهية لحماية النظام العام والذوق العام، بينما التقييد يعني فرض أوامر ونواهٍ تمس جوهر الحرية.
وفي حال فُرضت تعليمات تُلزم المواطنين بعدد معين من المدعوين أو تمنع مظاهر احتفال تقليدية دون أساس قانوني، فإن ذلك يُعد تعديًا على الحقوق الدستورية.
ثانيًا: الأثر الاجتماعي للمبادرة
1. الآثار الإيجابية المحتملة
• الحد من الإسراف والمظاهر المبالغ فيها التي تُرهق الأسر ماديًا وتزيد من الضغوط الاقتصادية.
• تعزيز قيم العدالة الاجتماعية عبر تقليص التفاوت في مظاهر الاحتفالات بين الفئات المختلفة.
• تنظيم الممارسات العشائرية بما يحافظ على السلم الأهلي ويحدّ من النزاعات.
2. التحديات والمخاطر الاجتماعية
• احتمال المساس بالهوية الثقافية: فالعادات والتقاليد تمثل مكونًا أصيلًا في النسيج الاجتماعي الأردني، وأي محاولة لتقييدها قد تُفهم كاعتداء على الخصوصية.
• رفض شعبي محتمل: إذا طُبّقت القرارات بصورة فوقية دون مشاركة مجتمعية حقيقية.
• الانتقائية في التطبيق: خطر التفاوت في تطبيق التعليمات بين المحافظات والمناطق، ما قد يولّد شعورًا بعدم العدالة.
• غياب البدائل التوعوية: فنجاح التغيير الاجتماعي لا يتحقق بالقانون وحده، بل يتطلب خطابًا ثقافيًا ودينيًا وتربويًا موازيًا.
ثالثًا: الموازنة بين المصلحة العامة
والحريات الشخصية
إن نجاح هذه المبادرة مرتبط بقدرة الدولة على تحقيق التوازن بين النظام العام والحقوق الدستورية للأفراد.
ولتحقيق ذلك، يُشترط أن تتوافر ثلاثة عناصر أساسية:
1. الشرعية القانونية: وجود نص تشريعي واضح يصدر عن مجلس الأمة، لا مجرد تعليمات وزارية.
2. الوضوح والتحديد: تعريف دقيق لمفاهيم مثل “العادات الاجتماعية الضارة” أو “الإسراف”، منعًا للتوسع في التفسير.
3. المشاركة المجتمعية: إشراك الوجهاء والعشائر والفعاليات المدنية والدينية في صياغة أي تشريعات أو سياسات تنفيذية.
إن مبادرة تنظيم العادات الاجتماعية خطوة تعكس رغبة رسمية في ترشيد الممارسات الاجتماعية وتخفيف الأعباء الاقتصادية، لكنها في الوقت ذاته تختبر مدى التزام السلطة التنفيذية بالمبادئ الدستورية للحريات العامة.
فالتنظيم محمود ما دام يهدف إلى المصلحة العامة ويستند إلى قانون واضح، أما إذا تجاوزه إلى التقييد القسري دون سند تشريعي، فسيُعدّ انتهاكًا لحرية الأفراد في ممارسة تقاليدهم وهويتهم الثقافية.
وعليه، فإن المعادلة المثلى تكمن في تحقيق التوازن بين احترام القانون وصون العادات المجتمعية الأصيلة، بما يضمن تقدم المجتمع دون المساس بجذوره.








