بين تهديدات تل أبيب وضغط واشنطن: هل دخلت الفصائل العراقية مرحلة العدّ العكسي؟

اَفاق نيوز – كشفت تقارير صحافية أن مسؤولين عراقيين تسلّموا عبر جهاز استخبارات غربي قاعدة بيانات أمنية إسرائيلية شديدة التفصيل عن الفصائل المسلّحة العراقية. لم تكن مجرّد معلومات عامّة، بل ملفاً واسعاً شمل القيادات، والهياكل التنظيمية، ومعسكرات التدريب، ومخازن الصواريخ والطائرات المسيّرة، والشبكات المالية، والواجهات الحكومية والاقتصادية المرتبطة بهذه الفصائل. بمعنى أن كلّ شيء تحت الرصد وكلّ هيكلية وواجهة حكومية أو اقتصادية هي مكشوفة.
لم يعد الجدل بشأن “سلاح الفصائل المسلّحة” أمراً داخلياً قابلاً للتأجيل، بل تحوّل في الأشهر الأخيرة إلى ملفّ “سيادي خطير” مفتوح على كلّ الاحتمالات، في ظلّ تصاعد الضغوطات والتحذيرات الأميركية، وعودة التهديد الإسرائيلي إلى واجهة المشهد، وانقسام داخلي شيعي بشأن تداعيات الاحتفاظ بالسلاح والمغزى من وجوده، ومتطلّبات “حصره” وحدوده وتوقيته.
في 17 كانون الأوّل/ ديسمبر 2025، كشف وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن واشنطن سلّمت بغداد قائمة بأسماء شخصيّات وجماعات مسلّحة مصنّفة وفق القوانين الأميركية على قوائم الإرهاب، مؤكّداً أن الولايات المتّحدة “لن تفاوض أو تناقش هذه الأسماء مع أيّ طرف”، بل ستتعامل معها وفق سياستها الخاصّة. هذا التصريح غير المسبوق بوضوحه، مثّل إعلاناً رسمياً عن انتقال الملفّ من مرحلة الرسائل السياسية إلى مرحلة الإجراءات.
حسين لم يكتفِ بذلك، بل شدّد على أن الضغوطات الإسرائيلية على العراق “ما تزال قائمة”، محذّراً من أن البلاد تعدّ من أكثر دول المنطقة تأثّراً بالتوتّر الإقليمي، في إشارة واضحة إلى أن العراق بات جزءاً مباشراً من معادلة الاشتباك الكبرى في المنطقة، سواء أراد ذلك أم لم يرد.
بعد أربعة أيّام فقط من تصريحات وزير الخارجية، كشفت تقارير صحافية أن مسؤولين عراقيين تسلّموا عبر جهاز استخبارات غربي قاعدة بيانات أمنية إسرائيلية شديدة التفصيل عن الفصائل المسلّحة العراقية. لم تكن مجرّد معلومات عامّة، بل ملفاً واسعاً شمل القيادات، والهياكل التنظيمية، ومعسكرات التدريب، ومخازن الصواريخ والطائرات المسيّرة، والشبكات المالية، والواجهات الحكومية والاقتصادية المرتبطة بهذه الفصائل. بمعنى أن كلّ شيء تحت الرصد وكلّ هيكلية وواجهة حكومية أو اقتصادية هي مكشوفة.
ووفقاً لمصادر سياسية، فإن “حجم هذه البيانات ودقّتها أذهلا المسؤولين العراقيين”، واعتُبرا بمثابة إنذار عملي بقرب تحرّك عسكري محتمل، والأهمّ أن تسليم هذا الملفّ جاء بعد تحذير من دولة عربية وصديقة، أبلغت بغداد أن إسرائيل تتحدّث عن ضوء أخضر أميركي للتحرّك منفردة داخل العراق، في ظلّ تراجع صبر واشنطن تجاه ملفّ السلاح خارج الدولة.
هذه المعطيات دفعت بغداد إلى التعامل مع الملفّ باعتباره تهديداً وشيكاً، وليس مجرّد خيار “أنها مسألة وقت”، لا سيّما مع تأكيد مسؤول عراقي أن “الرسائل وصلت بوضوح”، وأن الضربات المحتملة لن تقتصر على مواقع عسكرية فحسب، بل ستشمل شخصيّات ومؤسّسات ذات نفوذ مالي وسياسي.
ويبدو أن أحزاب السلطة في العراق بدأت تتعامل بنحو جدّي مع الأمر، إذ إن هنالك مساعي حكومية لتشكيل لجنة تنسيقية لحصر السلاح غير المرخّص والمتوسّط والثقيل، في مقابل ذلك تطالب الفصائل المسلّحة بضمانات، مما يعني استجابتها للمخاطر التي باتت تحاصرها.
فهي تدرك أن تلك المخاطر لا تتعلّق فقط بترسانتها من الأسلحةـ، بل بالمنظومة الاقتصادية التي أنشأتها عبر شبكة مصالح مالية تمتدّ إلى الوزارات وباقي مفاصل الدولة، حتى أصبحت قوّة كبرى في البلاد، وليس من السهل أن تتخلّى عن الاثنين معاً، المال والسلاح.
من يقبل ومن يرفض؟
في ضوء هذه التطوّرات، رأت جماعة كتائب “الإمام عليّ” بزعامة شبل الزيدي، في بيانها الصادر في 20 كانون الأوّل/ ديسمبر 2025، وفي خضم تصاعد التهديدات، أن الفوز الانتخابي الذي حقّقته القوى الحشدية “لا يمثّل مكسباً سياسياً فحسب، بل يضعها أمام مسؤوليّة أخلاقية وأمنية كبيرة تجاه الدولة والمجتمع”، وأن “وحدة الدولة تقتضي حصر السلاح بيد المؤسّسات الرسمية ودعم القوّات الأمنية والحشد الشعبي معاً”.
الموقف ذاته عبّرت عنه حركة “أنصار الله الأوفياء” بزعامة حيدر الغراوي، التي اعتبرت أن “صناديق الاقتراع أعادت رسم ملامح المرحلة المقبلة”، وأن حصر السلاح بيد الدولة بات “يمثّل أولوية وطنية لضمان وحدة القرار الأمني وهيبة الدولة”.
كما تبنّى الأمين العام لـ”عصائب أهل الحقّ” قيس الخزعلي خطاباً وسطياً، حين أكّد أن حصر السلاح مطلب حكومي ووطني، وأن العصائب ستعمل على تطبيقه “بالطريقة العراقية وفي التوقيت المناسب”، مع رفض أية وصاية خارجية.
لكن في المقابل وفي توجّه مغاير، ردّت كتائب “حزب الله”، في بيان يمكن وصفه بالعالي السقف، أكّدت فيه أن “المقاومة حقّ، وأن سلاحها أمانة لا يبحث نزعه قبل تحقيق السيادة الكاملة وخروج القوّات الأميركية وقوّات الناتو والجيش التركي”، وربطت أيّ تفاهم مع الحكومة، بضمانات شاملة تتعلّق بالأمن والسيادة ودرء ما وصفته بالتهديدات الداخلية والخارجية.
وسارت حركة “النجباء” في الاتّجاه عينه، باعتبار الوجود الأميركي “احتلالاً سافراً”، وأكّدت رفض أيّ تسوية قبل “إنهاء الوجود الأجنبي”، والتشبّث بما تسمّيه “الحقّ الشرعي للمقاومة”.
عقب ذلك، تسارعت النقاشات داخل “الإطار التنسيقي” الشيعي، بشأن كيفية التعامل مع ملفّ السلاح، وللمرّة الأولى، طرحت وبنحو جدّي أفكار تتعلّق بتسليم الأسلحة الثقيلة وتفكيك بعض المواقع الاستراتيجية، مقابل ضمانات داخلية وخارجية بعدم الاستهداف، بحسب القيادي في “الإطار التنسيقي” عبد الرحمن الجزائري.
وكشف مصدر سياسي رفيع، شدّد على إخفاء هويّته وموقعه لحساسية الموضوع، أن “لجنة تنسيقية عليا سيتمّ تشكيلها بصلاحيّات معيّنة تتولّى حصر السلاح بيد الدولة، من دون استثناء لأيّة جهة من هذا الإجراء”، مشيراً إلى أن “الفصائل المسلّحة طالبت بضمانات مقابل الالتزام بقرارات اللجنة”.
وقال المصدر إن “اللجنة العليا ستكون لديها صلاحيات لمتابعة إجراءات حصر السلاح غير المرخّص والمتوسّط والثقيل، بما في ذلك الطائرات المسيّرة، وأيّ جهة لا تقوم بتسليم الأسلحة المشار إليها سيتمّ التعامل معها وفق القوانين النافذة”، وأشار إلى أنه “بعد تشكيل الحكومة الجديدة سيُصار إلى تشريع قانون (نزع وحصر وتنظيم السلاح) ليكون تحت سيطرة الحكومة، وفي حال إقرار هذا القانون سيتمّ نزع سلاح جميع الأطراف بمختلف عناوينها وارتباطاتها الحزبية أو السياسية ولا استثناء في ذلك”.
وعن ماهيّة الضمانات التي طلبتها الفصائل المسلّحة الشيعية من الحكومة، قال المصدر: “تسليم السلاح للحكومة حصراً، وعدم استهداف قادة الفصائل ومقرّاتها، وألا تتمّ مصادرة استحقاقات الفصائل السياسية وفق نتائج الانتخابات الأخيرة، مع تفهّم عدم منح مناصب للذين ينحدرون من أجنحة مسلّحة، لأن المرحلة المقبلة هي مرحلة بناء الدولة المدنية”.
وسط هذا المشهد، دخل القضاء العراقي على الخطّ، إذ وجّه رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان رسالة شكر علنية لقادة الفصائل المسلّحة، مثنياً على ما وصفه بـ”استجابتهم لنصيحته بحصر السلاح بيد الدولة”، مشدّداً على “ضرورة الانتقال إلى العمل السياسي بعد انتفاء الحاجة الوطنية للعمل العسكري”.
رسالة زيدان هذه كانت محاولة لخلق مظلّة قانونية رمزية لأيّ مسار مقبل، لكنّها في الوقت نفسه أثارت ردود فعل غاضبة من فصائل رأت فيها تجاوزاً للصلاحيّات، ومحاولة لفرض مسار سياسي تحت غطاء قانوني.
كما أن رسالة زيدان كانت محلّ انتقاد أميركي، جاء على لسان النائب الجمهوري جو ويلسون، الذي وصف تقديمه الشكر للفصائل المسلّحة بأنه “لا يعكس سلوك مؤسّسة دولة ولا حياد القضاء”، وهو “خارج نطاق صلاحيّاته الدستورية”، ويُظهر وجود علاقة مستمرّة بين الطرفين، واعتبر أن “القضاء المستقلّ لا يُقدم الشكر للجماعات المسلّحة على اتّباع نصائحه، ولا يُقيّم تحرّكاتها السياسية أو العسكرية”.
النوايا غير كافية
في 22 كانون الأوّل/ ديسمبر 2025، ذكر المبعوث الأميركي الخاصّ إلى العراق مارك سافايا، أن إعلان النوايا “غير كافٍ، وأن المطلوب نزع شامل وغير قابل للتراجع، ضمن إطار وطني ملزم، مع تفكيك كامل للفصائل وضمان انتقال أعضائها إلى الحياة المدنية”، وأوضح في تدوينة على حسابه في منصّة “أكس”، أن “هذه الخطوة تمثّل استجابة إيجابية للدعوات والتطلّعات التي طالما نادت بها المرجعية الدينية”.
كما شدّد على وجوب أن تشمل عمليّة نزع السلاح التفكيك الكامل لجميع الفصائل المسلّحة، وضمان انتقال منظم وقانوني لأفرادها إلى الحياة المدنية، لأنه وفقاً للدستور العراقي وسيادة القانون “لا يحقّ لأيّ حزب سياسي أو منظّمة أو فرد، امتلاك أو تشغيل تشكيلات مسلّحة خارج سلطة الدولة، وينطبق هذا المبدأ بنحو موحّد على جميع أنحاء العراق دون استثناء”.
وأكّد سافايا أن “السلطة الحصرية لحمل السلاح واستخدام القوّة، يجب أن تكون بيد المؤسّسات الاتّحادية والإقليمية الشرعية المخوّلة بتنظيم وقيادة وإدارة القوّات المسلّحة الوطنية، لحماية الشعب العراقي والدفاع عن السيادة الوطنية، العراق يقف عند مفترق طرق حاسم”.
وختم: “بإمكان العراق المضي قدماً على طريق السيادة والاستقرار والازدهار والوحدة وسيادة القانون، أو أن يبقى حبيساً في دوامة من التشرذم وانعدام الأمن، تستغلّ فيها جماعات مسلّحة غير شرعية الموارد الوطنية لتحقيق مكاسب شخصيّة، وتنفيذ أجندات خارجية”.
تدوينة سافايا وصفها مراقبون للشأن السياسي، بأنها رسالة واضحة تحدّد ما يجب القيام به سريعاً ودون مماطلة والا فإن العواقب ستكون كبيرة.
ويبدو أن مسار التصعيد الأميركي في هذا الملفّ حاسم، ففي 17 أيلول/ سبتمبر 2025، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية إدراج أربعة فصائل عراقية على لائحة الإرهاب هي: حركة “النجباء”، كتائب “سيّد الشهداء”، حركة “أنصار الله الأوفياء”، وكتائب “الإمام عليّ”، في خطوة تمثّل تمهيداً قانونياً لمرحلة أكثر قسوة، على حدّ توصيف بعض المراقبين.
وعزّز هذا الاتّجاه دعوة عضو مجلس الشيوخ الأميركي جو ويلسون، إلى تجفيف منابع التمويل، بل مطالبته بتصنيف “منظّمة بدر” أيضاً على أنها إرهابية، عادّاً ما يجري جزءاً من قانون “تحرير العراق من نفوذ إيران”.
من التحذير إلى التكيّف
في العاشر من آب/ أغسطس 2025، كشف مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي، عن مكالمة هاتفية أجراها مع رئيس “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي، تناولت ما وصفه بـ”مخاوف مشتركة” من انتقال ملفّ نزع السلاح من “حزب الله” في لبنان إلى “الحشد الشعبي” في العراق.
وبحسب ولايتي، فإن المالكي أكّد له أن الولايات المتّحدة وإسرائيل، وبعد تضييق الخناق على “حزب الله”، ستتّجهان إلى استهداف “الحشد الشعبي”، وقال إن “نزع سلاحه لا يمثّل مجرّد إجراء أمني، بل خطوة تمسّ جوهر التوازنات التي قام عليها النظام السياسي بعد 2014”.
ولايتي نقل عن المالكي قوله: “لولا الحشد الشعبي، لابتلع الأميركيون العراق”، مشبّهاً دور “الحشد” في العراق بالدور الذي يؤدّيه “حزب الله” في لبنان.
ولم يكتفِ ولايتي بنقل الهواجس، بل ذهب أبعد من ذلك حين أعلن صراحة أن طهران وبغداد “ستقفان في وجه أيّ محاولة لنزع سلاح حزب الله أو الحشد الشعبي”، في موقف بدا آنذاك حاسماً وغير قابل للتأويل، ويضع المالكي في موقع الرفض الصريح لأيّ تسوية تمسّ سلاح الفصائل.
غير أن هذا الخطاب لم يلبث أن شهد تحوّلاً لافتاً بعد أشهر قليلة، ففي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، ومع اقتراب استحقاق تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وطرح المالكي نفسه مجدّداً مرشّحاً محتملاً لرئاسة الوزراء (سبق له أن تولّى المنصب لدورتين متتاليتين)، خرج الأخير بتصريحات تحدّث فيها عن “وجود توجّه لتسليم سلاح الفصائل الثقيل إلى الدولة العراقية”.
يرى مراقبون أن هذا التباين لا يمكن فصله عن متغيّرين أساسيين: أوّلهما تصاعد الضغوط الأميركية الإسرائيلية على العراق، وانتقالها من مستوى التحذير إلى التهديد المباشر، وثانيهما الحسابات الداخلية المرتبطة بتشكيل الحكومة المقبلة، إذ بات ملفّ السلاح أحد الشروط غير المعلنة لقبول أيّ مرشّح لرئاسة الوزراء.
في هذا السياق، لا يُقرأ تحوّل المالكي بوصفه تراجعاً عقائدياً، بقدر ما يُفهم كإعادة تموضع سياسي، يهدف إلى طمأنة الخارج من جهة، وعدم الاصطدام المباشر مع الفصائل من جهة أخرى.
تأسّس “الحشد الشعبي” في صيف العام 2014، استجابةً لفتوى (الجهاد الكفائي) التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى عليّ السيستاني، في وقت كان يهدّد فيه تنظيم “داعش” كيان الدولة العراقية، ووصلت عناصره إلى تخوم بغداد، وفي ذلك التوقيت، مثّل “الحشد” مظلّة تعبئة وطنية دينية هدفت إلى سدّ الفراغ الأمني، الذي خلّفه انهيار قطاعات واسعة من القوّات الحكومية برئاسة القائد العامّ للقوّات المسلّحة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
غير أن “الحشد” الذي وُلد كقوّة طوارئ لمواجهة خطر استثنائي، سرعان ما تحوّل مع مرور السنوات، إلى لاعب مركزي في المعادلة العراقية، ليس فقط على المستوى العسكري، بل السياسي أيضاً، إذ يضمّ اليوم ما يقارب 238 ألف عنصر موزّعين على نحو 68 فصيلاً، تتفاوت في أحجامها ونفوذها وارتباطاتها السياسية والإقليمية.
سياسياً، انعكس هذا الثقل بوضوح على نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، في ظلّ غياب “التيّار الصدري”، إذ حصدت الفصائل المنضوية أو القريبة من “الحشد الشعبي” الشيعي عشرات المقاعد النيابية.
فحصلت “منظّمة بدر” على 18 مقعداً، فيما فازت “عصائب أهل الحقّ” بـ27 مقعداً، في حين نالت كتائب “حزب الله” 6 مقاعد، وحصلت كتائب “الإمام عليّ” على 9 مقاعد، إضافة إلى تمثيل لكتائب “سيّد الشهداء” وقوى أخرى أقلّ عدداً.
على المستوى القانوني، جرى في عام 2016 دمج “الحشد الشعبي”، بهيئة رسمية تتبع القائد العامّ للقوّات المسلّحة، في خطوة هدفت إلى إخضاعه لإطار الدولة، وتنظيم علاقته بالمؤسّسات العسكرية والأمنية الأخرى. كما أصبح “الحشد” مموّلاً بنحو مباشر من الموازنة العامّة عبر وزارة المالية، إذ بلغت ميزانيته في عام 2024 نحو 2.7 مليار دولار.
لكنّ هذا الدمج، بحسب منتقدين، ظلّ إدارياً أكثر منه عملياً، إذ لم يؤدِّ بالضرورة إلى تفكيك البنى الفصائلية أو إنهاء ازدواجية القرار الأمني، بل رسّخ واقعاً جديداً أصبح فيه “الحشد” كياناً رسمياً بقدرات مستقلّة ونفوذ سياسي متنامٍ، ما جعله في قلب الجدل الدائر اليوم بشأن “حصر السلاح بيد الدولة”.
السلاح مقابل الضمانات
يرى رئيس منطقة الشرق الأوسط في مؤسّسة “غالوب” الدولية منقذ داغر، أن ما يشهده العراق اليوم في ملفّ الفصائل المسلّحة، لا يمكن اختزاله بوصفه تحوّلاً جذرياً أو انقلاباً بنيوياً كاملاً، لكنّه في الوقت نفسه يتجاوز حدود المناورة التكتيكية المؤقّتة.
فبحسب داغر، المسار كان مطروحاً منذ فترة، إلا أن وتيرته تسارعت بنحو واضح بعد السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، ثم مع اندلاع حرب الأيّام الاثني عشر بين إيران وإسرائيل، التي أعادت رسم خرائط القوّة والردع في الإقليم.
ويشرح داغر، أن الفصائل العراقية “بنت نفوذها العسكري والسياسي على مدى سنوات، انطلاقاً من فرضية مركزية مفادها وجود إيران قويّة، قادرة على توفير الحماية السياسية والعسكرية، وفرض توازن ردع إقليمي يحصّن حلفاءها”.
ويشير إلى أن هذه الفرضية، وفق تقديره، تعرّضت لتآكل عميق، بعدما تغيّرت معادلات الردع، وباتت هذه الجماعات تدرك أن ميزان القوّة لم يعد يعمل لصالحها كما في السابق.
وفي توصيفه للمشهد الإقليمي، يذهب داغر إلى أن المنطقة دخلت ما يسمّيه “عصر الهيمنة الأميركية والعربدة الإسرائيلية”، حيث لم تعد الضربات الاستباقية أو التهديدات خطوطاً حمراء، بل أدوات ضغط مفتوحة.
ويرى داغر، أن هذا العامل تحديداً شكّل المحرّك الحاسم في إعادة تموضع الفصائل العراقية، ودفعها إلى مراجعة خطابها وسلوكها، ليس بدافع القناعة السياسية بقدر ما هي “استجابة لمخاطر وجودية محتملة”.
ويشدّد داغر على أن البعد الأمني لا يمثّل المحرّك الوحيد لهذه التحوّلات، فالعامل الاقتصادي، بحسب قراءته، أصبح أكثر حسماً وربما أكثر تأثيراً من الخوف العسكري ذاته، إذ إن عدداً من هذه الفصائل راكم، خلال السنوات الماضية، شبكات مصالح مالية واسعة، متشابكة مع الوزارات ومفاصل الدولة والسلطة، وهي مكاسب يصعب التفريط بها أو تعريضها لعقوبات أو استهداف مباشر.
وفي هذا السياق، يلفت داغر إلى أن التحوّلات لا تقتصر على سلوك الفصائل وحدها، بل تشمل أيضاً خطاب الحكومة العراقية، التي تخلّت تدريجياً عن مقاربتها التقليدية، التي كانت تربط مسألة نزع أو حصر السلاح بخروج القوّات الأجنبية “بات هذا الملفّ يُطرح باعتباره مطلباً قائماً بذاته، وشرطاً أساسياً للاستقرار السياسي وتحسين الوضع الاقتصادي وجذب الاستثمارات، وليس مجرّد نتيجة لاحقة لإنهاء الوجود الأجنبي”.
القيادي في “الإطار التنسيقي” عبد الرحمن الجزائري، يتحدّث عن تعقيدات إضافية تحيط بالملفّ، مشيراً إلى أن المرجعية الدينية في النجف ترفض المساس بـ”أوراق الحشد الشعبي” في هذه المرحلة.
ويوضح الجزائري، أنه أجرى اتّصالاً مباشراً مع أحد وكلاء المرجعية، للاستفسار عن الموقف من ملفّ “الحشد”، وجاءه الردّ بأن “أيّ قرار يمسّ الحشد الشعبي لا يمكن اتّخاذه قبل تشكيل الحكومة الجديدة”.
ويلفت الجزائري إلى أن فصيلين رئيسيين هما كتائب “حزب الله” وحركة “النجباء”، قدّما إلى قوى “الإطار التنسيقي” لائحة مطالب مقابل الدخول في أيّ مسار يتعلّق بتسليم السلاح أو حصره. وتتضمّن هذه المطالب، بحسب الجزائري، ستّ نقاط أساسية، من بينها تقديم ضمانات واضحة بأن يتمّ تسليم السلاح حصراً إلى مؤسّسات الدولة الرسمية، ممثّلة بوزارتي الداخلية والدفاع، إضافة إلى التعهّد بعدم استهداف مقارّ هذه الفصائل أو عناصرها خلال مراحل التنفيذ.
ويؤكّد الجزائري، أن قادة “الإطار التنسيقي” اتّفقوا على ضرورة أن تكون قرارات رئيس الوزراء المقبل “بعيدة عن الحشد الشعبي”، في إشارة إلى السعي لفصل ملفّ “الحشد” عن التجاذبات الحكومية المباشرة، أو استخدامه كورقة ضغط في الصراعات السياسية.
وتتقاطع هذه المعطيات مع ما كشفه مصدر مطّلع داخل “الإطار التنسيقي”، تحدّث عن لجوء القوى الشيعية إلى قنوات دولية غير مباشرة، طلبت من خلالها ضمانات فعلية من أطراف وسيطة، مقابل المضيّ في خطوات حلّ الفصائل المسلّحة أو دمجها ضمن المؤسّسات الأمنية.
وبحسب المصدر، فإن هذه الضمانات لا تقتصر على عدم التعرّض العسكري للفصائل خلال عمليّة الحلّ، بل تشمل أيضاً عدم استهداف قياداتها، وعدم المساس بشبكاتها الاقتصادية والعناوين المرتبطة بها.
ويشير المصدر إلى أن القوى السياسية شدّدت في اتّصالاتها مع الوسطاء، على أن تكون عمليّة الحلّ والدمج مفتوحة زمنياً، ومن دون جدول صارم، باعتبار أن الحراك يجب أن يبقى داخلياً وتحت السيطرة السياسية، تفادياً لانفجارات أمنية أو انشقاقات داخل البيت الشيعي.
خطاب شكلي أم ممارسات فعلية؟
السياسي المستقلّ النائب السابق مثال الآلوسي، يرى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اعتمدت منذ اليوم الأوّل سياسة صارمة وواضحة تجاه الأذرع المرتبطة بإيران في العراق وسوريا والمنطقة.
ويشير الآلوسي إلى أن واشنطن “تعني ما تقول” عندما تتحدّث عن نزع سلاح الميليشيات، وتجريد إيران من طموحاتها التوسّعية، موضحاً أن المقاربة الأميركية تتجاوز مجرّد تقليص النفوذ الإيراني، لتشمل منع أيّ محاولة لابتلاع العراق عبر جماعات مسلّحة تعمل خارج الإطار القانوني للدولة، ويؤكّد أن أيّ تغيير في الخطاب السياسي للفصائل، أو تبنّي مفردات جديدة مثل “حصر السلاح”، لا يعني بالضرورة تغيّر أهدافها العقائدية أو سلوكها العملي، محذّرا من أن مقترحات نقل السلاح من الفصائل إلى جهات تسيطر عليها هذه القوى نفسها، ليست مقنعة لدى واشنطن، ويقول: “هي ليست ساذجة لقبول حلول شكلية تقوم على تبديل العناوين، دون تفكيك حقيقي للبنى المسلّحة”، ويضيف أن الولايات المتّحدة، إلى جانب شريحة واسعة من العراقيين ودول المنطقة، تنتظر دلائل ملموسة تثبت صدق دعوات نزع السلاح، محذّراً من أن “بعض المبادرات قد تُفهم على أنها محاولة لتهيئة الطريق للسيطرة على الحكومة المقبلة، أو لضمان مشاركة هذه القوى فيها بثقل سياسي تحت عنوان طمأنة واشنطن”.
كما يتوقّف عند المقترح الخاصّ بنزع السلاح الثقيل مع الإبقاء على الخفيف، مؤكّداً أن هذا الخيار يهدف عملياً إلى طمأنة الخارج، لا سيّما الولايات المتّحدة ودول الخليج، مع الاحتفاظ بأدوات السيطرة الداخلية، لافتاً إلى أن “السلاح الخفيف هو الأكثر تأثيراً في ترهيب المجتمع وتكريس أنماط الحكم”، وهو ما قد يجعل العراق بمعارضيه، يدفع ثمنه مقابل ضمان أمن الإقليم.
على الصعيد الداخلي، يقدّم الخبير الأمني والاستراتيجي مهنّد الجنابي، قراءة ميدانية تعكس تباين المواقف داخل الفصائل، مشيراً إلى أن تصريحات قادة الفصائل “حتى وإن جاءت في وقت حسّاس يسبق تشكيل الحكومة، لا يمكن اعتبارها جدّية في حصر السلاح بيد الدولة ما لم تطبّق عملياً”.
ويرى أن الانقسامات الحقيقية داخل “تنسيقية المقاومة العراقية واضحة، خصوصاً أن حركة النجباء وكتائب حزب الله تعترضان على تسليم السلاح، رغم امتلاك الأخيرة كتلة برلمانية تمثّلها حركة حقوق”.
ويعتبر أن الدعوات الموحّدة لحصر السلاح جاءت “لدعم طرح رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، لكنّها في الوقت نفسه، تعرّضت لهجوم واضح من النجباء وكتائب حزب الله، ما يعكس عمق الانقسام الداخلي حول جدّية هذه المبادرة وموعد تنفيذها”.
ويشير الجنابي إلى أن الأطراف العراقية في “الإطار التنسيقي” قد تعدّ هذه المبادرة وسيلة للحصول على دعم دولي، أميركي بنحو خاصّ، لمسار تشكيل الحكومة الجديدة “إلا أن معلومات مسرّبة تكشف وجود اتّفاقية تلزم الحكومة والأطراف السياسية، لا سيّما الإطار، بعدم مشاركة الكتل المرتبطة بفصائل مسلّحة في المناصب الوزارية حتى غير السيادية منها، وهو ما يبرز تداخل الضغوط الدولية مع الحسابات السياسية المحلّية”.
في المقابل، يقدّم أحمد خلف الشبيب عضو حزب “تقدّم” الذي يتزعّمه محمّد الحلبوسي، قراءة أكثر تحفّظاً، ويقول “إذا كان القرار وضع السلاح خلف الباب واستدعاءه في الوقت الذي يريدون، فلم نفعل شيئاً”.
ويوضح أن أيّ تسليم لسلاح الفصائل يجب أن يكون ضمن إطار قانوني محدّد، لضمان عدم استغلال أيّ طرف لموقعه العسكري والسياسي، ولحماية أمن الدولة واستقرارها. وهو ما يبرز أبعاد القلق القانوني والإداري المحيط بملفّ “الحشد” والفصائل المسلّحة.
أمام هذا المشهد، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية لملفّ “سلاح الفصائل”. الأوّل، وهو الأرجح، يتمثّل في تسليم شكلي لسلاح الفصائل بما يحفظ جوهر نفوذها، والثاني، وهو الأقلّ احتمالاً، يتمثّل في تفكيك تدريجي حقيقي للسلاح، وهذا يتطلّب توافقاً شيعياً إيرانياً دولياً نادر الحدوث، أما السيناريو الثالث، فيتمثّل في انفجار مواجهة مفتوحة، في حال فرضت خطوات أميركية قسرية من دون توافق داخلي.
أُنجز التقرير بإشراف شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية.








