
عدنان نصار
عندما أستعيد بدايات وعيي الثقافي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أرى المشهد الثقافي الأردني نابضًا بالحياة: مكتبات صغيرة تحتفظ بعبق الورق والكتب المترجمة، مقاهٍ في إربد وعمان والزرقاء وكافة المحافظات ، ومنابر تزدحم بالشعراء والكتّاب، مسرحيات في المركز الثقافي الملكي ،في المدارس ، ومسرحيات في أمكنة تحاكي الوجدان ، تشعل النقاشات .. مهرجانات أدبية وفنية كانت تفتح أبوابها لكل الباحثين عن جمال الكلمة والفكرة ، والترفيه الواع المبني على عمق معرفي وثقافي ونقدي لمسارات تحتاج الى تقويم ..كانت الثقافة تمتلك الفائض من جوهر الأشياء الثمينة .
كان المثقف يومها حاضرًا في المشهد العام، صوته مسموع، ورأيه مؤثر، وكتابه يُتداول بين الناس. كان الناس يذهبون إلى المسرح كما يذهبون إلى مباراة كرة قدم في الوقت الراهن ، يقرؤون الشعر كأنهم يشربون قهوة الصباح، ويعتبرون الثقافة ضرورة حياتية وليست رفاهية، ولا هي أمر ثانوي ..وكانت دور السينما جزء من مسار ثقافي تمتلك قوة التأثير عبر شاشاتها أو مسارحها .
راهنا ؛ عندما أنظر إلى واقعنا الثقافي اليوم، أشعر بالخذلان. أين ذهبت تلك الحيوية؟ ولماذا صار الحديث عن الثقافة وكأنه حديث عن شيء من الماضي؟ ..صار الفعل الثقافي الملتزم -وهنا لا أعمم – مثل غريب في ديار الغربة ..ويتيم يبحث عن ونيس ،يتقاسم معه الهموم .
لا شك ، للتراجع أسباب ، وأول الأسباب غياب الدعم المؤسسي المتمثل بتقلص ميزانية وزارة الثقافة،وحالة إغتراب للمراكز الثقافية والمكتبات، حتى صار المشهد الثقافي يعيش على مبادرات فردية ، في غالبيتها غاب عنها الإبداع ، وغاب عنها الإلتزام بالثقافة الجادة المبنية على مسار التأثير .
ويشكل غياب المشروع الوطني الثقافي ، أحد أبرز الأسباب في تراجع الفعل الثقافي ، وأظن أن الحكومات المتعاقبة لم تنجح في بلورة استراتيجية ثقافية عابرة للزمن ، وموائمة للنهج الوطني الذي يجعل الثقافة جزءًا من التنمية المجتمعية ، ونهضتها وتأثيرها ، وبناء جيل يمتلك أجنحة ثقافية تعكس عمق المعرفة ، وتعزز الخارطة الذهنية في بناء الإبداع .
الإعلام الرقمي بدوره أثر وسيطر على المحتوى السريع على أذواق الناس، مما أنتج حالة ضعف في مكانة الأدب والفنون أمام طوفان الترفيه السطحي..وعلى الرغم من أهمية التقنيات والفضاء المفتوح الذي يفترض مساندته للثقافة الملتزمة ، غير أن المحتوى الفاقد لقيمته الثقافية سيطر على المشهد عبر ثقافة سطحية ترفيهية رسالتها إضحاك الآخرين ليس أكثر .
المثقفون الذين يحملون رسالة جادة وملتزمة تم تهميشهم ، وغاب صوتهم عن دوائر القرار، فاكتفى بالتعبير في فضاءات ضيقة لا تصل إلى عامة الناس ، ما ادى الى إتساع دائرة الضياع لجوهر المثقف ورسالته وإبتعاده عن المشهد وفق قاعدة :” مكره أخاك لا بطل” .!
تراجع الحضور الثقافي جعل الأجيال الجديدة غريبة عن الكتاب والمسرح والسينما، بل عن أبسط أشكال الحوار الفكري ، وهي نتيجة حتمية في ظل التمدد الأفقي والعامودي لغياب المثقف . وهنا تكمن الخطورة في بناء مجتمع بلا ثقافة ، مجتمع هشّ، سريع التأثر، ضعيف المناعة أمام الأفكار المتطرفة
والسطحية.
إعادة الاعتبار للثقافة كأولوية وطنية لا كماليات.وإعادة إعمار الهوية الثقافية ، جزء من حل شامل لتعزيز دور الثقافة في الفعل والمقاومة والمواجهة ،
وأعتقد أن تفعيل الشراكة بين الثقافة والتعليم والإعلام
وإشراك المثقفين في صناعة القرار الثقافي، بدلًا من تهميشهم سيؤد الى نجاحات جيدة تمهيدا لنجاحات أكثر شمولية .
إن الثقافة ليست مجرد كتاب على رف، أو مسرحية تُعرض لمقاعد فارغة، أو لوحة تذبل في ركن مهمل. الثقافة هي روح الأمة، مرآتها وذاكرتها وصوتها. وإذا أردنا أن نحمي هويتنا من التآكل، وأن نصون وعينا من التلاشي، فلا بد أن نعيد إشعال جذوة الثقافة من جديد.
فلنرفع معًا الكتاب كما نرفع الخبز، ولنفتح أبواب المسرح كما نفتح أبواب المدارس، ولنمنح الكلمة مكانتها كأنها أوكسجين الحياة.
فمن دون ثقافة، نصبح بلا ذاكرة… وبلا مستقبل.








