منبر الكلمة

أحمد يوسف… حين يكون الشعر نهراً للهوية

 

عدنان نصّار

يصل الشاعر الحقيقي إلى القصيدة كما يصل العابر إلى نبعٍ كان يعرفه منذ الأزل، لا ليشرب الماء فحسب، بل ليكتشف سرّ العطش. هذا هو الانطباع الذي يتركه الشاعر أحمد يوسف؛ شاعرٌ لا يكتب عن الوطن بل يكتب به، ولا يصف اللغة بل يعبُر إليها كمن يعود إلى بيته الأول.

الأربعاء المقبل سيكتب للمشهد الثقافي الأردني لحظة جديدة، حين تحتفي كرسي عرار في جامعة اليرموك بندوةٍ ثقافية تُقام للمرة الأولى تكريمًا لتجربة هذا الشاعر الذي جعل القصيدة مشروعَ وعيٍ لا زينةَ لغة، وجعل من الشعر مرآةً للضمير الجمعي العربي.

أحمد يوسف ليس شاعر مناسبة، بل شاعر حالة. يلتقط التفاصيل اليومية للإنسان العربي ويعيد تدويرها داخل القصيدة، فيمنحها قيمةً أبعد من لحظتها، كمن يحوّل الرمل إلى مرآة، أو الوجع العابر إلى معنى مقيم. في شعره انحيازٌ شفافٌ إلى المسحوقين، دون صراخٍ سياسيٍ مباشر، واحتفاءٌ إنسانيٌ بالجمال دون أن ينفصل عن وجدان الناس. القصيدة عنده ليست بناءً لغويًا فقط، بل إعادة صياغةٍ للوعي، وإعادة اكتشافٍ للعالم.

وهو في ذلك يوسّع تعريف الشعر ذاته، فلا يعود مجرّد سؤال موسيقيٍ ولا موقفٍ خطابيٍ تقليدي، بل رحلةَ بحثٍ عن المعنى. لغته ليست عصيّة، لكنها غير مستهلكة، ومجازه ليس غريبًا، لكنه لا يسقط في الزخرفة المجانية. نصّه الشعري يحمل أثر التراث لكنه لا ينسخه، ويعرف إيقاع الحداثة لكنه لا يعبده، فيبدو صوته منطقةً وسطى بين حكمة العمود وقلق التفعيلة وتمرّد القصيدة الحديثة، حيث يمتلك الشاعر حريته لا شكلَه فقط.

في زمنٍ عربيٍ يتراجع فيه الشعر أمام السرد والإيقاع الإعلامي السريع، تأتي أهمية أحمد يوسف من قدرته على جعل القصيدة فكرةً عابرةً للزمن، لكنها شديدةُ الالتصاق بالحاضر، وكأن شعره يقول إن القصيدة لا تموت حين تكون حياة، ولا تُنسى حين تكون ذاكرةً بديلةً عن ذاكرةٍ رسميةٍ تُنهكها السياسة.

أما جامعة اليرموك، وهي تمهّد لهذه الندوة المقدرة وتحتضنها عبر كرسيٍ يحمل رمزية عرار، فهي تؤكد أن الجامعة ليست لإنتاج الشهادات فقط، بل لإحياء الأسئلة الكبرى، وأن الثقافة إن تراجعت خارج الأسوار، يجب أن تستعيد عافيتها داخلها. وبهذا المعنى، لا تكرّم المنابرُ الشعراء، بل يكرّم الشعرُ المنابر.

الأربعاء المقبل، لن يكون الشعر فيها ضيفًا، بل صاحب المكان، والجمهورُ المنتظر فيها لن يصفّق لشاعرٍ فحسب، بل لاحتمال الشعر ذاته، وللغةٍ التي تستحق أن تُستعاد. وهكذا يظل أحمد يوسف ،ضوءا مرئيا ،لا منسيا .. شاعرًا يكتب للأمام، لا ليستكمل سطرًا ثقافيًا في دفتر الوطن فحسب، بل ليفتح دفترًا جديدًا، حيث تكون القصيدة وطنًا كاملًا لا جملةً اعتراضية على هامش الأحداث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى