
ذاكرة الميكروفون والكاميرا: سلسلة يومية عن إعلاميي الإذاعة والتلفزيون الأردني
الحلقة الحادية والاربعون
في ذاكرة الإعلام الأردني والعربي، تبقى أسماء قليلة فقط قادرة على تجاوز الزمن، وتحفر مكانتها بصوتها قبل صورتها. من بين تلك الأسماء، يتألق الإعلامي القدير محمود سليم أبو عبيد، الذي مثّل جيل الرواد، وساهم في تأسيس الإذاعة الأردنية، وأسّس لمسار إعلامي خليجي مبكر، واضعًا بصمة لا تُمحى في تاريخ الإعلام العربي.
وُلد محمود أبو عبيد عام 1938 في بلدة الحصن الواقعة في لواء بني عبيد بمحافظة إربد شمالي الأردن. منذ سنواته الأولى، أبدى شغفًا كبيرًا بالكلمة والصوت، ووجد في الإذاعة وسيلة سامية للتعبير والتواصل. تلقى تعليمه في الأردن، وواصل تطوير قدراته بالحصول على دبلوم في العلوم العليا، إلى جانب مشاركته في دورات تدريبية إعلامية متخصصة، كان من أبرزها دورات احترافية في القاهرة، أضافت إلى رصيده المعرفي والفني.
التحق أبو عبيد بـإذاعة المملكة الأردنية الهاشمية في مطلع الستينيات، وتحديدًا عام 1960 أو 1961، حيث بدأ ضمن فرع الأحاديث الثقافية، في وقت كانت فيه الإذاعة تخطو أولى خطواتها نحو التأسيس والهوية. برز صوته بسرعة، ليصبح من ركائز البث الإذاعي، وممن ساهموا في رسم ملامح المدرسة الأردنية في الإلقاء الإذاعي، التي اتسمت بالفصاحة، والهدوء، ووضوح الرسالة.
لم يكن أبو عبيد مجرد مذيع أخبار، بل كان إعلاميًا شموليًا جمع بين الإعداد والتقديم والإشراف البرامجي. تميز بتقديم برامج ثقافية واجتماعية تنبض بروح الوطن، وحملت صوت المواطن وهمومه اليومية. كان محاورًا بارعًا للأدباء والشعراء والمفكرين، وتميّز أسلوبه بالرصانة والتأمل العميق.
“مع الغروب”: برنامج رمضاني يومي بثّه لأكثر من 25 عامًا، شاركته تقديمه زوجته الإعلامية نبيلة السلاخ، وامتاز بمزج الشعر بالتأمل والطرح الثقافي.
“مجلة الأثير”: برنامج متنوع استقطب جمهورًا واسعًا من الأردن وخارجه، لما فيه من مقالات صوتية وحوارات وموضوعات يومية.
“البث المباشر”: من أطول البرامج التي قدّمها، واستمر في تقديمه لنحو 14 عامًا، عاكسًا نبض الشارع الأردني بكل شفافية.
“لقاء الظهيرة”: برنامج تناول الشؤون العامة، واستضاف مسؤولين ومفكرين ناقش معهم قضايا الوطن والمواطن.
بعد سنوات من التألق في الأردن، انتقل أبو عبيد إلى دول الخليج العربي، حيث لعب دورًا رياديًا في تأسيس الإعلام الإذاعي في السعودية، وكان أول صوت يُبث في إذاعة الرياض، وقرأ أول نشرة إخبارية فيها، كما ساهم في إطلاق إذاعة الدمام.
كما تولى مهامًا في:
إذاعة جدة
إذاعة نداء الإسلام – مكة المكرمة
إذاعة رأس الخيمة – الإمارات التي أسسها وأدارها لمدة عامين
خلال هذه المرحلة، لم يكن مجرد مذيع، بل مدرّبًا ومحاضرًا، فقد عمل في كلية الإعلام بالرياض، وأسهم في إعداد وتدريب الكوادر الإعلامية الخليجية، واضعًا خبراته في خدمة أجيال جديدة.
في عام 1976، عاد أبو عبيد إلى الإذاعة الأردنية ليستأنف مسيرة العطاء. تبوأ عدة مناصب إدارية، من أبرزها:
إدارة البرامج الميدانية والمنوّعة
مساعد مدير البرامج
رئاسة الفريق الإذاعي لتغطية اليوبيل الفضي لجلوس المغفور له الملك الحسين بن طلال
كما أشرف على التغطيات الخاصة لـمهرجان جرش للثقافة والفنون، وأدار فرق العمل في تغطيات رسمية ووطنية مهمة.
رغم تخصصه الإذاعي، كان لأبو عبيد ظهور مميز في التلفزيون الأردني، خاصة في برامج توثيقية تناولت مسيرة الإعلام الرسمي. من أبرز مشاركاته:
ظهوره مع الإعلامية نبيلة السلاخ في برنامج يوم جديد
مقابلات في الثمانينيات ضمن سلسلة زمن الإذاعة والتلفزيون
كما قدّم خبراته للأجيال الجديدة من خلال محاضرات في معهد الإعلام الأردني، فكان أحد ركائز تأهيل الكفاءات الإعلامية.
عرف أبو عبيد بصوته الدافئ الرخيم، وأسلوبه الهادئ الذي يجمع بين الوقار والتأمل. تميّز بلغته المنتقاة، وقدرته على تحويل النص الإذاعي إلى تجربة سمعية غنية. كان وفيًا لمهنة الإعلام، يلتزم بأخلاقياتها، ويحرص على الموضوعية والمهنية والاحترام الكامل للمستمع.
في 12 كانون ثاني 2025، غيّب الموت الإعلامي الكبير محمود أبو عبيد، بعد رحلة حافلة بالعطاء استمرت أكثر من ستة عقود. شُيّع جثمانه من مسجد صدام في بلدته الحصن، وأقيمت له مجالس عزاء في الحصن، إربد، وعمان، وسط حضور شعبي ورسمي واسع.
نعاه وزير الاتصال الحكومي بوصفه “أحد أعمدة الإعلام الأردني والعربي”، وأشادت المؤسسات الإعلامية بإسهاماته التي صنعت هوية إذاعية وثقافية ما زالت حاضرة حتى اليوم.
يبقى محمود أبو عبيد صوتًا خالدًا في سجل الإعلام العربي، وأحد أعلام “زمن الإذاعة الجميلة”. لم يكن مجرد مذيع، بل رائدًا، ومُعلّمًا، ومرجعًا في الإلقاء واللغة والصوت. ترك وراءه مدرسة قائمة بذاتها، وإرثًا من الأخلاق والاحترافية لا يزال يلهم كل من يسير في درب الإعلام.
عماد الشبار








