منبر الكلمة

الأميركيون يتأهّبون لمغادرة العراق: انسحاب عقابيّ

العراق لم يعد يحتمل المزيد من الحروب، جراحه لم تندمل بعد من “داعش”، واقتصاده لم يتعافَ من سنوات الانقسام والعقوبات، وتكرار الأخطاء السابقة وترك السلاح خارج الدولة والانجرار إلى صراعات الآخرين، ذلك كله لن يقود إلا إلى مزيد من الخراب.

في ليالي بغداد الثقيلة، حين يهبّ نسيم دجلة محمّلاً بقلقٍ مكتوم، يخيَّل للعراقي أن مدينته تعيش على فوهة بركان، في السماء طائرات أميركية تتهيأ للرحيل، وعلى الأرض فصائل مسلّحة تُعيد ترتيب صفوفها، وفي البعيد جبهات تلتهب بين طهران وتل أبيب.

الكل كأنه يستعد لجولة جديدة من الحرب، لكن السؤال الذي يطارد العراقيين: هل ستكون بلادهم هذه المرة ساحة المعركة أم هدفها المباشر؟

منذ إعلان مستشار رئيس الوزراء، حسين علاوي، أن مهمة بعثة التحالف الدولي في بغداد وقاعدة عين الأسد ستنتهي في أيلول/ سبتمبر المقبل، بدا وكأن العراق يخطو خطوة جريئة نحو استعادة سيادته. لكن هذه الخطوة، بدل أن تُطمئن الشارع، فتحت الباب أمام أسئلة أعمق، فمن سيملأ الفراغ بعد انسحاب التحالف؟ وهل ستترك أميركا العراق مكشوف الظهر في وجه الضربات الإسرائيلية، عقاباً له لإصراره على إنهاء المهمة؟ وكيف ستتصرف إيران؟

الكاتب والصحافي رسلي المالكي يقرأ المشهد بطريقة مغايرة، فهو يرى أن القوات الأميركية لم تنسحب، بل أعادت التموضع في قواعد خارج العراق، تاركة بغداد عرضة لـ”خطة عقابية” تبدأ بانسحاب التحالف، وتنتهي بتوريط العراق في الحرب المقبلة بين إيران وإسرائيل. ووفق هذه الرؤية، فإن ما يصفه التيار الإيراني بـ”انتصار سياسي”، ليس سوى مقدمة لمعركة خاسرة سيدفع العراقيون ثمنها غالياً.

المعادلة معقّدة، واشنطن لن تدافع عن بغداد هذه المرة، فيما إسرائيل تُحضّر لتوجيه ضربات خاطفة داخل العراق تستهدف أذرع إيران ومخازن سلاحها، وإذا اندلعت المواجهة، فإن العراق سيكون في قلب العاصفة، لا متفرجاً على أطرافها.

عضو حركة النجباء، مهدي الكعبي، شدد في تصريحات له على أن فصائل المقاومة هي “الطرف الأقوى” في العراق، وأن سلاحها يشكل ضمانة لعدم تكرار سيناريو 2014 عندما اجتاح “داعش” المدن. بالنسبة إليه، هذا السلاح ليس تهديداً بل داعم للدولة وسيادتها.

غير أن الواقع العراقي يروي قصة أخرى، فالسلاح الذي يُرفع في وجه إسرائيل أو أميركا هو ذاته الذي استُخدم في صراعات داخلية دامية، أراق دماء موظفين حكوميين بسبب نزاع على منصب مدير عام، كيف يمكن لسلاح خارج سيطرة الدولة أن يكون ضامناً لسيادتها، بينما يفرض إرادته على مؤسساتها ويوازيها في القوة؟

رفض الفصائل تسليم سلاحها أو الاندماج الكامل في المنظومة الأمنية يجعل العراق أمام مفارقة خطيرة: جيش رسمي ضعيف ومؤسسات مرتبكة، مقابل تشكيلات مسلّحة تتصرّف كدولة داخل الدولة.
العراق لم يكن طرفاً مباشراً في صراع طهران وتل أبيب، لكنه يجد نفسه دائماً ساحةً له، فإيران التي تدرك كلفة المواجهة المباشرة، تفضّل إدارة معركتها قدر المستطاع عبر وكلائها. أما إسرائيل، فهي ترى في العراق امتداداً لجبهة النفوذ الإيراني، وبالتالي هدفاً مشروعاً.

لكن، هل يتحمّل العراقي، الذي لم يلتقط أنفاسه بعد من كوارث داعش والانقسامات الطائفية، أن يُزجّ في معركة لا قرار له فيها؟ هل يستطيع أن يميّز بين صواريخ تُطلق من أرضه دفاعاً عن “المقاومة” وبين بيوت تُقصف فوق رؤوس المدنيين؟

دخول العراق في هذه الحرب يعني عملياً أن مدنه قد تتحول إلى مسرح لرسائل نارية بين طهران وتل أبيب، فيما سيدفع الشعب العراقي ثمن الدم والدمار، في حرب لم يخترها.

الحكومة العراقية تقول إنها ماضية في بناء قواتها المسلحة بعيداً من أي وصاية خارجية، وإن إنهاء مهمة التحالف الدولي خطوة في طريق السيادة الكاملة. لكن الحقيقة أن السؤال الأكبر هو: هل القوات العراقية قادرة وحدها على مواجهة التحديات المقبلة؟

الأزمة تزداد عتمة إذا ما قررت إيران، تحت ضغط العقوبات والهجمات، أن تُغلق نوافذها على العراق وتستخدم أراضيه كخط مواجهة متقدم، حينها لن يكون أمام بغداد سوى طريقين: الانصياع كلياً لإرادة طهران، أو مواجهة عزلة اقتصادية خانقة تحت وطأة العقوبات الأميركية.

النتيجة في الحالتين واحدة، اقتصاد متدهور، استثمارات هاربة، وبنية تحتية مهدّدة بالانهيار. والأخطر من ذلك، أن المجتمع العراقي نفسه سيصبح وقوداً لصراع إقليمي يتجاوز قدراته واحتماله.

العراق الآن أمام مفترق طرق، بإمكانه أن يختار طريق الدولة، بسط سيطرة المؤسسات الرسمية على كل السلاح، وإعلان سياسة خارجية متوازنة تحميه من أن يكون ساحة لحروب الآخرين، أو أن يواصل السير على الحافة، دولة هشّة بين طهران وواشنطن وتل أبيب، معرّضة للانفجار في أي لحظة.

السيادة لا تُقاس بالشعارات، بل بقدرة الدولة على ضبط قرارها الداخلي والخارجي، فإذا كانت بغداد تريد فعلاً أن تثبت سيادتها، فعليها أن تسأل نفسها: كيف تحمي شعبها من حرب مقبلة؟ وكيف تمنع أراضيها من أن تتحول إلى ساحة تصفية حسابات إيرانية – إسرائيلية؟

العراق لم يعد يحتمل المزيد من الحروب، جراحه لم تندمل بعد من “داعش”، واقتصاده لم يتعافَ من سنوات الانقسام والعقوبات، وتكرار الأخطاء السابقة وترك السلاح خارج الدولة والانجرار إلى صراعات الآخرين، ذلك كله لن يقود إلا إلى مزيد من الخراب.

صانع القرار العراقي أمامه فرصة نادرة، إما أن يختار أن يكون العراق دولة مستقلة حقيقية، قادرة على قول لا للجميع، أو أن يظل تابعاً في حرب الآخرين، حيث الدم عراقي والأرض عراقية، فيما القرار يُصنع في طهران وتل أبيب وواشنطن.

الوقت يضيق، والبركان يقترب من الانفجار، والسؤال الذي يجب أن يُجاب عنه قبل فوات الأوان، هل يملك العراق الشجاعة ليقول هذه ليست حربنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى