
اَفاق نيوز – مع تخلخل الهوّية الوطنية السورية في فورة قتل الآخر، اقترحت بعض الأصوات الفكرية العودة إلى انتماء الطائفة! لا بل رفعت أعلام الطوائف في تناقض واضح مع طرحها العلماني، وفي زلّة انفعالية حاول البعض تبريرها فكرياً بأن دعم الأقلّيات هو السبيل الوحيد إلى مواجهة تطرّف “الأكثرية”.
ظنّ سوريون كثر أن أحد فوائد اللجوء إلى أوروبا، هي الاختلاط مع المجتمع الأوربي المنفتح والمتنوّع، ومشاكلتهم لدولة القانون في هذه الدول، واختبارهم لاصطلاحات ثاروا من أجلها في بلادهم، كالحرّية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
وتفاءل البعض بعودة هذه الخبرات إلى سوريا بعد سقوط النظام والمشاركة في بناء سوريا المدنية والديموقراطية، لكن هل عادت شريحة واسعة من سوريي المهجر في أوروبا وأميركا بمفاهيم عن الانفتاح والتنوّع وقبول الآخر؟ بعبارة أخرى، هل بنى السوريون علاقة صحّية مع جهاز الدولة، أم أننا مازلنا ندور في فلك القبيلة، والعشيرة، والطائفة؟
طوائف وملل و مظلوميّات لا متناهية
بعد سقوط النظام، عاد بعض السوريين إلى سوريا في زيارة سريعة إلى الوطن، ومنهم من عاد ليكون فاعلاً على الأرض في “سوريا الجديدة”، لكنّ العودة الكبيرة للسوريين لم تكن العودة الفعلية وحسب، بل عودتهم إلى الفضاء العامّ والشأن السوري اليومي عبر بوابات الواقع الافتراضي والسوشيال ميديا.
هناك حيث استفرغ كثيرون القيح الطائفي والسُعار العرقي، وبدلاً من أن يُظهر كثير من سوريي أوروبا وعياً ناضجاً بالمفاهيم المدنية وقبول التنوّع، أظهر بعضهم جهلاً وتشنّجاً طائفياً لا مثيل له، وعملت بعض صفحاتهم على السوشيال ميديا كمنصّات تحريض وتزكية نار الحرب الأهلية التي لم تخمد بعد.
طارحين بفعلهم هذا سؤالا مركباً: إلى مَن ينتمي السوريون المقيمون في أوروبا حقّاً؟ إلى الكيان السوري بشكله الحالي؟ أم إلى الطائفة والدين؟ أم إلى المواطنة السورية والوطن السوري على صيغة انتمائهم إلى بلدان اللجوء الأوروبي؟
عملت مجازر الساحل والسويداء عمل الكشّاف في الإجابة عن سؤال الانتماء السوري، ويمكن القول إنها كانت المحكّ الذي كشفت فيه الهوّيات عن نفسها، فبعد التحرير السريع والسقوط المتهاوي للنظام، ظهرت المظلوميّة الطائفية كأول ملمح على تمظهر الهوّية الضيّقة لدى سوريين كثر، وهي الكامنة أصلاً في وعي بعضهم، لذلك لم تكن عبارات مثل: “أمّة السنّة، بني أميّة وغيرها”، إلا كلمات دالّة على استنهاض المظلوميّة السنّية، لا سيّما وأن الصراع في سوريا اتّخذ شكلاً طائفياً (سنّياً/ شيعياً) منذ دخول إيران وميليشاتها في مواجهة الميليشيات السنّية في سوريا.
ظهور المظلوميّة السنّية بعد السقوط كان متوقعاً، لكن ما لم يكن متوقعاً هو أن يتبنّى هذه المظلوميّة سوريون مقيمون في أوروبا، لا بل ويعملون على تزكيتها ونشرها، ولنا في الحسابات المحرّضة التي عملت بالطريقة نفسها في مجازر الساحل والسويداء، حيث نفي الأخبار وتبرير الموت وتشريع القتل، ورمي الآخر بسمات العمالة وخيانة الوطن والطائفية.
من جهة أخرى، وكردّ فعل شعبي على المجازر، وكمخرَج أخير للهوّية المأزومة، ولأن دماء كثيرة أُريقت على الهوّية الطائفية، ارتفعت أعلام علويين ودروز في العواصم الأوروبية، وعاد الكثير من أبناء الأقلّيات إلى الانتماء الطائفي. فالهوّية الوطنية السورية مشوّشة، ولا رأي جامع حولها بعد التفتّت، ومثلما ارتدّ السنّة إلى سنّتهم، سترتدّ باقي الطوائف بالتتالي.
لكن مرّة أخرى نعود إلى السؤال، كيف حصل هذا الارتداد الطائفي للسوريين المقيمين في أوروبا بعد عشر سنوات على الأقلّ من اللجوء و”الاندماج”؟ ألا يُفترض أنهم تأقلموا مع مفاهيم المواطنة واحترام الحرّيات الفردية والتنوّع والاختلاف؟ ألا يُفترض أنهم عاشوا لأكثر من عقد في بلاد تحرّم الإلغاء وخطاب الكراهية؟ بعبارة أخرى، ألم يندمج هؤلاء مع المجتمعات الأوروبية (نظرياً) وأخذوا شهادات في ذلك الاندماج تمكّنوا بعدها من التجنيس كألمان وهولنديين وفرنسيين؟
“القانون أعمى… ويتمّ تطبيقه على الجميع دون تمييز عرق أو لون أو جندر”، تلك هي الجملة المفتاحية في كلّ دروس الاندماج الأوروبية. وهذه الدروس هي عبارة عن برنامج تعليمي تقدّمه الدول الأوروبية لطالبي اللجوء على أراضيها، وذلك لـ”إدماج القادمين الجدد مع المجتمعات المضيفة”، عبر شرح آليّة عمل القانون وهيكلية الدولة ومؤسّساتها وآليّة عملها المستقلّ.
تختلف دروس الاندماج بين دولة وأخرى، إلا أنها كلّها تجتمع على شرح مفاهيم (المسؤوليّة والمحاسبة، الديمقراطية، وصون الحرّيات الشخصية…) وتمرّ هذه العمليّة (الإدماجية) بمراحل مختلفة، منذ تقديم طلب اللجوء، وصولاً إلى قسَم الشرَف عند الحصول على الجنسيّة الأوروبية، الذي يتضمّن علناً القسَم على صون هذه المبادئ والقيم.
أين أثر هذه الدروس والكورسات على اللاجئين السوريين في أوروبا؟ أين هذا السُعار الطائفي من مبادئ الحرّية والديمقراطية والمساواة؟ وكيف يمكننا تفسير فهم روح القانون وتطبيقه لدى أحدهم في أوروبا، وكتابته عبارات طائفية تدعو إلى الإبادة في سوريا في الوقت ذاته؟! كيف يمكن تفسير هذا الفصام في العلاقة مع الدولة/ القانون (أوروبا) والدولة/ القبيلة والطائفة (سوريا)؟ وكيف لشخص أنهى فحص الاندماج للتوّ أن يكتب منشوراً تحريضياً بعد ذلك يدعو فيه إلى إبادة طائفة كاملة؟ هل المشكلة فينا، في تكوين السوري فقط؟ أم أن كلّ سردية الاندماج بحاجة إلى مراجعة شاملة في أوروبا؟
المشكلة على المستويين معاً، فاصطلاح الاندماج أصلاً هو اصطلاح إشكالي، ودروس الاندماج هي دروس نظرية لا تقوم على شرح تفصيلي ووافي للمفاهيم، أو على عمليّة إدماج فعلية في المجتمع بقدر ما تقوم على امتحان اللاجئ بهذه المبادئ وتسميعها، وذلك ما أفلح فيه الكثيرون، ولم يتعاملوا مع كورسات الإندماج إلا على اعتبارها (دروس مادّة القومية) تُحفظ لأجل الامتحان، وتُنسى بعد الحصول على الشهادة.
عن داء المركزية وفوبيا الفيدراليات
لا تقف دروس الاندماج عند حدود شرح القيم الليبرالية الأوروبية، بل هي تفصّل أيضاً في شرح القانون ودوره في الحياة اليومية، وتوضح الروادع والمخالفات على من يخالف القانون، بل وتتوسّع أيضاً لتشرح بنية الدولة ونظام الحكم فيها. ومن هنا فإن كلّ من حصل على الإقامة الإنسانية في ألمانيا مثلاً، يعرف بنية الدولة الألمانية والنظام الفيدرالي فيها، لا بل ويتغزّل باللا مركزية أحياناً، لكن حينما يأتي حديث الفدرالية واللا مركزية في سوريا، يُظهر الدعم غير المحدود للمركزية، وتطغى على الخطاب مفردات (وحدة البلاد، التقسيم..الخ) بدلاً من الكلمات التي تعلّمها في الاندماج، التي يستخدمها في السياق الأوروبي حينما يُسأل عن شكل الحكم في البلاد الأوروبي التي يسكنها.
يُوحي الفصام السالف بالتعامل مع نظام الحكم اللا مركزي، إلى السؤال عن مفهوم “المركزية السياسية” كداء في ذهن أصحاب هذا الرأي المقيمين في أوروبا، داء يحاول أصحابه تغطيته بالحديث عن خصوصية سوريا وخصوصية شعبها، متناسين مثلاً أن بلداً مثل بلجيكا يعيش فيه أكثر من ١٦٨ جنسيّة، وثلاث لغات وسبع حكومات.
إذاً، المركزية في حالتنا السورية مرَض، داء قد يؤدّي إلى هستيريا عند صاحبه تدفعه إلى تبرير قتل الآخر والتجزير به لحماية المركزية والمركز. يندرج ذلك على قضيّة فصل الدين عن الدولة أيضاً، حينما يكفّر المقيم في أوروبا كلّ من يطالب بدولة علمانية في سوريا، وهو يعيش في الوقت نفسه في قلب البلاد العلمانية.
فكر أوروبي وهوّيات مشوّشة
درس الكثير من السوريين العلوم الإنسانية في الجامعات الأوروبية، عبر اختصاصات مختلفة وبأعمار وبدرجات علمية متنوّعة، شاكلَ الطلاب السوريون الفكر الأوروبي ومفرداته ومفاهيمه، وقرأوه بلغته الأصلية ضمن تجربة فريدة للتعلّم والاطلاع على الفكر الغربي، من عصر التنوير وفلاسفة الأنوار، وصولاً إلى التيّارات الفكرية المعاصرة. أنتج ذلك دراسات نظرية ومقالات نقدية، لكن هل أنتج فكراً أو تياراً فكرياً؟ هل شكّلت هذه الأصوات الفكرية المتفرّقة حراكاً فكرياً سورياً في المنفى الأوروبي؟ وكيف قرأت الأصوات الفلسفية والفكرية السورية مرحلة ما بعد السقوط؟
لا يمكن الإحاطة بكلّ النتاج الفكري لهذه الأصوات طبعاً، ولسنا هنا بصدد الحديث عن مصطلح “النخبة” وإشكاليّاته، لكن يمكن الوقوف عند تعاطي الأصوات الفكرية مع مفهوم الأقلّيات، والتنظير له، تحديداً في الانقسام الحادّ الذي طال المجتمع السوري بعد السقوط بين حدّي أكثرية وأقلّية، انقسام ولّد فزراً لطالما حاول البعض منعه، إلا أنه أصبح مُشعّاً بعد مجازر الساحل والسويداء، ولا يمكن تغطيته بالبنان.
ومع تخلخل الهوّية الوطنية السورية في فورة قتل الآخر، اقترحت بعض الأصوات الفكرية العودة إلى انتماء الطائفة! لا بل رفعت أعلام الطوائف في تناقض واضح مع طرحها العلماني، وفي زلّة انفعالية حاول البعض تبريرها فكرياً بأن دعم الأقلّيات هو السبيل الوحيد إلى مواجهة تطرّف “الأكثرية”.
تمّ اللجوء الى مقاربة طائفية بدلاً من تقديم طرح فكري يتجاوز الأقلّيات والأكثريات نحو مجتمع المواطنة والمساواة، طرح يقاوم التطرّف بالاعتدال، والأحادية بالتنوّع، ولا ينزلق إلى تقديم خطاب طائفي (أقلّي) بوجه خطاب طائفي (أكثري).
لم تنجح نخب السوريين في الغرب في إيجاد خطاب ثالث يتجاوز هذه الثنائية ويفتّتها. خطاب فكري بعيد عن التشنّج السياسي والطائفي، خطاب يحاول قراءة الهوّية السورية المشوّشة التي تكاد تنهار لفرط هشاشتها.
يشير الإنكار الذي يمارسه كثيرون لمجازر الساحل، ومجازر السويداء، والتأييد الأعمى لسلطة الأمر الواقع في دمشق، إلى قرب انفراط العقد الاجتماعي السوري، وأن السبب وراء ذلك ليس الارتداد الطائفي وحسب، بل بسبب انهيار شامل للمنظومة الأخلاقية لداعمي هذه الجرائم والمتعامين عنها، تحديداً أولئك الموجودون في أوروبا، وعلاقتهم الفصامية مع مفهوم السلطة والدولة، وتقديسهم للقائد الفرد، وعدم إيمانهم بالحقّ في الاختلاف والدولة المدنية التي تجرّم خطاب الكراهية والتحريض.
وهنا نعود إلى السؤال الأول، ماذا تعلّم هؤلاء ـ السوريون ـ من دروس الاندماج الأوروبية؟ هؤلاء الذين إن قرأوا عبارة “الدين لله والوطن للجميع”، وظنّوا أنها بند من بنود الاندماج، فسارعوا إلى حفظها وترديدها كالببغاوات في مبنى البلدية/ الفدرالية.
daraj








