في المطار .. كل المشاعر .. تتهيج وتُثار .. والأعصاب تنهار

rasha dwairi3 أغسطس 2023آخر تحديث :
في المطار .. كل المشاعر .. تتهيج وتُثار .. والأعصاب تنهار

عوض ضيف الله الملاحمه

أفاق الاخبارية/ من يود ان يتعمق في دراسة المشاعر الإنسانية وتناقضاتها ، وعفويتها ، وشِدَّتِها ، وصدقيتها ، فليذهب الى مطارات دول الشرق عامة ، ومطارات الأقطار العربية خاصة .

خلال ال ( ٤٧ ) سنة الماضية من عمري إستقليت الطائرة ربما لأكثر من ( ٥٠٠ ) مرة ، جُبت فيها عدداً من أقطار العالم وقاراته . لكنني لم أزُر بريطانيا وأمريكا ، عن قصد ، مع انني دُعيت لقضاء إسبوعين في جزر هاواي ، مع تغطية كافة مصاريف الرحلة ، الا أنني كررت إعتذاري كلما تكررت الدعوة ، كما دُعيت مرات عديدة من معهد عالي يتبع جامعة أكسفورد عدة مرات لأنه كان بيننا وبينهم علاقة عمل ، وكنت أُفوض أحد زملائي المدراء . والسبب انني أكره هاتين الدولتين المتغطرستين ، المتجبرتين ، لأنهما سبب كل المصائب التي حلّت بوطننا العربي الكبير .

في سفراتي كنت أرى المشاعر الإنسانية التلقائية مفتوحة أمامي كما صفحات الكتاب الذي أقرأه . كنت أرى مشاعر الإنسان شفافة ، رقيقة ، متدفقة ، إنسانية بإمتياز ، راقية ، مرهفة ، ناعمة كما أجنحة الفراشة ، او وريقات وردة الجوري في عِزّ تفتحتها ، في يومٍ ربيعي دافءٍ جميل .

في المطار ، تكاد تُصاب بالحَوَلْ ، والدوار ، وتكون مشحوناً عاطفياً لدرجة ان دمعتك أحياناً لا يمنعها من السقوط الا الحياء لتفاعلك مع ما يدور حولك ، مع أنني شخصياً كنت صلب المشاعر لدرجة ان كثيرين كانوا يصفونني بقساوة القلب ، وتَجَمُّدِ المشاعر . لكنني لست كذلك دوماً ، فالموقف هو الذي يحدد إنفعالي وردود أفعالي . أما أنا فأعتبرها صلابة في مواجهة المواقف ، وجرأة على إتخاذ القرار مهما كان إنعكاسه عليّ او على غيري ، خاصة إذا مَسّ المباديء الأساسية والمسلمات القيمية والأخلاقية التي أؤمن بها .

في المطار ، ترى للدموع أنواع : دموع الفرح ، عند إستقبال حبيب او قريب عاد من غُربة . او دموع وداع لحبيب او قريب غادر ساعياً في مناكبها عن رزق او علاج . او زيارة حبيب في غربته . او أم او أخت غادرت لبلد ما لحضور مولود جديد قادم في الطريق لشقيقها او شقيقتها . او معارض ضاقت عليه حدود وطنه ، وأطبقت على صدره ، وقُطِع رزقه ، فهاجر بجسده ، تاركاً قلبه وعقله في وطنه الذي يعشق ، وبين ثنايا تجاعيد وجه أبيه وأمه ، وبين خصلات شعر أخواته وإخوته ، الذين يلوكون المر ببُعده . والأقسى ، والأقصى في الإنفعالات والمشاعر — ومن تجربة شخصية — عندما يأتي المطار بجثمان عزيز ، غادرت روحه جسده في غربته ، وتتلقف أيادي أهله وذويه المرتجفة النعش الذي يحتضن جسد عزيز فارق الى الأبد . وللعلم ومن تجربة شخصية فانه يتم وضع النعش في الشحن مبكراً قبل قدوم الركاب بساعات ، وعند وصول الجثمان ، يتم تنزيله بعد مغادرة كل الركاب جميعاً ، حتى لا يعرف الركاب عن مرافقة الجثمان لهم في الطائرة . مُعتذراً عن قساوة التوصيف ، ومكرراً إعتذاري لمن ذكّرته بفقد عزيز في غربته .

المطارات تكشف مشاعر الناس ، ومدى مصداقيتها ، وطيبتها ، وعفويتها . وعليه أرى ان يعتبر علماء الإجتماع المطارات ميداناً لدراسة المشاعر الإنسانية ، ومختبراً لتحليل الإنفعالات البشرية . المطارات أماكن لتمازج ، وتنافر ، وتناقض المشاعر ، حيث تجد التناقض بين الفرح والسرور والبهجة بعودة حبيب ، وبين الحزن والألم على مغادرة أبٍ او أخ ببُعده الحياة لا تطيب .

في شبابي لم أعبأ كثيراً بمشاعر المسافر ، ولم أتخوف يوماً من ركوب الطائرة ، وقد عشت تجارب المطبات الهوائية كثيراً ، وفي إحدى المرات إنخفضت الطائرة عن مسارها عشرات الأمتار ، وكادت ان تسقط ، لدرجة ان أبواب الخزائن العلوية كلها إنفتحت بعنف شديد . كما تعرضتُ مرة لمعاناة عدم إستجابة عجلات الطائرة للنزول تمهيداً للهبوط ، حيث كنا في رحلة عودة من بغداد عام ٢٠٠٢ ، وكانت الطائرة تقل حوالي ( ١٩٠ ) راكباً من كبار المسؤولين ورجال الأعمال الأردنيين ، واضطر الطيار لعمل عدة لفات في الجو بهدف تكرار محاولة فتح العجلات ، والتخلص من أكبر كمية من الوقود لتخفيف الأضرار لو أُجبِر على الهبوط الإضطراري ، لكن بلُطف الله ، ومهارة وثبات الطيار هبطنا بسلام والحمد لله .

المطارات تحوي مكنونات النفس البشرية ، بكل ما فيها من تناقض بين الحزن والفرح والمشاعر الجياشة . فيها تثار وتتهيج وتظهر وتطفو على وجوه الجميع أحاسيس وإنفعالات متنوعة لا تظهر كما في المطار . في المطار مشاعر الناس تتناقض وينقسمون وكأن بعضهم في الجنة وبعضهم في النار ، مع أنهم بنفس المطار . فعلاً في المطار ، كل المشاعر تتهيج وتُثار ، والأعصاب تنهار ، والدموع تُصبح مِدرارة كما الأنهار ، في الليل والنهار .

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

تنويه