منبر الكلمة

من عاش بلا معنى فقد مات

 

القس سامر عازر

 

هناك جملة جرى تداولها تقول: “في غزة نجا من مات، ومات من نجا”.

ليست هذه العبارة مجرد مفارقة لغوية، بل خلاصة تجربة إنسانية عميقة، ومرآة لواقع تنقلب فيه المعاني، إذ يصبح الموت ـ في لحظة ـ نجاة وراحةً من وجعٍ لا يُحتمَل، فيما تتحول الحياة إلى حملٍ ثقيل ينوء به القلب قبل الجسد. فالعين التي رأت الفقد، والقلب الذي حمل الذاكرة، يعرفان أن البقاء ذاته قد يكون امتحانًا موجعًا، فيموت المرء ألف مرة!

 

ومع ذلك، فإن هذه المقولة ليست خاتمة المعنى، ولا ينبغي أن تكون. فالحياة ليست زمنًا نعبُره وحسب، بل أمانة ورسالة نُؤديها حين نختار العدل والمحبة، ونحيا بها ولو كان الطريق إليها مليئًا بالألم والتضحية.

هنا تبرز الكلمة التي قالها محمود درويش، شاهدة على عمق الحياة رغم قسوتها:

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة.”

فالحياة رغم جراحها تستحق أن نتمسك بمعناها، لا بمظاهرها، وأن نحافظ على نورها في داخلنا ولو انطفأ الضوء حولنا.

 

فالنجاة الحقيقية لا تكون بالموت، بل بالوقوف في صف الحق. النجاة هي أن نحيا بالمحبة، وأن نرفض أن يتحول القلب إلى حجر. هي أن نقول “لا” حين يصبح الصمت خيانة. هي أن نُبقي إنسانيتنا حيّة، حتى لو كلّف ذلك أعظم التضحيات.

 

إن من يمضي في طريق العدل في عالمٍ يضج بالظلم، لم يختر الطريق الأسهل، بل اختار أن يكون إنسانًا.

ومن يفتح قلبه للمحبة في زمن القسوة، لم يخسر نفسه، بل أنقذها. ومن يقدم نفسه لخدمة الناس والمجتمع، إنما يكتب اسمه في سجل الحياة لا في سجل الزمن. وقد عبّر جبران خليل جبران عن هذا الجوهر بكلمات لا تزال تنبض بالحقيقة:

“ليس الموت أن نموت، بل أن نفقد معنى الحياة ونحن أحياء.”

 

فالموت الحقيقي ليس غياب الجسد، بل انطفاء الرسالة. والحياة الحقيقية ليست البقاء، بل المعنى.

لذلك نقول: من عاش بلا معنى فقد مات، ومن عاش بالعدل والمحبة والسلام فقد نجا، حتى لو دفع ثمنًا عظيمًا. فالروح التي تعرف لماذا تعيش، لا تُهزم.

والقلب الذي يبقى حيًا في عالمٍ يميل إلى رائحة الموت، هو أعمق وجوه البطولة.

 

الحياة رسالة… ومن أدى رسالته فقد عاش حقًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى