منبر الكلمة

‎لماذا يتحوّل صحافيو غزة إلى “متعاونين” مع وسائل الإعلام بعد مقتلهم؟

محمد ابو شحمة – صحفي فلسطيني

ما حدث مع الصحافيين في غزة يجب أن يكون جرس إنذار لمن بقي في الميدان؛ على كل من يعمل مع هذه المؤسسات أن يطالب بعقد واضح يضمن حقوقه ويلزمها بمسؤولياتها، وإلا فإن التغطية لصالحها لن تكون إلا انتحارًا مجانيًا.

قتلت إسرائيل ستة صحافيين في يوم واحد، وتركت خلفهم حزنًا عميقًا وخوفًا على مصير من تبقى لتغطية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إذ يبدو أن مصيرهم جميعًا الموت، كما حدث لزملائهم الذين يُقتلون يوميًا.

وراء كل صحافي قُتل قصةٌ وعائلة، وأحلام وآمال كان يسعى الى تحقيقها، لكن القذائف الإسرائيلية كانت أسرع، فحوّلت أجسادهم إلى أشلاء.

مريم أبو دقة، الصحافية الفلسطينية التي قُتلت وهي تحمل كاميرتها وهاتفها لتوثّق قصفًا إسرائيليًا داخل مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، كانت أمًا لطفل اسمه غيث، وابنةً لعائلة كبيرة رعَتها بكل ما استطاعت.

نزحت مريم خلال الحرب من منزل عائلتها في بلدة عبسان شرق خان يونس، حيث كانت تعيش مع والديها وابنها، إلى منطقة المواصي غرب المدينة، وذلك للمرة الأولى منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

اتخذت الصحافية الشجاعة – كما كان يصفها زملاؤها – تغطية الحرب رسالةً لها، ولم تترك حدثًا إلا وحوّلته إلى صورة أو قصة تصل إلى العالم، حتى أصبح اسمها معروفًا ومرموقًا.

كانت مريم تحمل قلبًا كبيرًا، وتفيض حبًا لعائلتها؛ فقد تبرعت بكليتها لوالدها المريض، واهتمت بوالدتها المصابة بالسرطان طوال أيام الحرب، تبحث لها عن الأدوية والطعام المناسب، إلى أن قُتلت قبل قرابة الأربعة أشهر.

تمكنت مريم من تهريب ابنها الوحيد غيث إلى الإمارات، وأُتيحت لها فرصة الخروج أيضًا والنجاة برفقته، لكنها قررت البقاء في غزة والاستمرار في التغطية. وخلال وجودنا في مخيم الصحافيين عند مجمع ناصر الطبي، كانت تقتنص بعض الوقت للحديث مع ابنها عبر الفيديو أو المكالمات الصوتية، تطمئنه بأنها بخير وبعيدة عن الخطر، ثم ما إن تقع غارة حتى تنطلق مسرعة للتوثيق.

امتلكت مريم سيارة من نوع “جيب” أهداها لها والدها، فكانت وسيلتها للوصول إلى مواقع القصف، وغالبًا ما كانت تقلّ معها زملاءها الصحافيين من دون تردّد. كثيرًا ما أقلّتنا بمركبتها إلى مواقع الاستهداف، وأحيانًا إلى خيم نزوحنا حين تنعدم المواصلات.

إلى جانب مريم، قتلت إسرائيل أيضًا الصحافي حسام المصري، مصوّر وكالة رويترز، وهو أب لعائلة كان يسعى بشتى الطرق الى توفير قوتها خلال الحرب والمجاعة التي اشتدت في الآونة الأخيرة.

تجرّع حسام مرارة الخسارة منذ بداية العدوان، إذ قُصف منزله بالكامل، فأصبح بلا مأوى يتنقّل من خيمة إلى أخرى، من دون راحة أو استقرار. عرفناه مبتسمًا دائمًا، كريمًا في نصائحه، متعاونًا مع الجميع. وخلال الحرب، كان يحرص على استمرار تعليم أولاده، حتى إنه كان يُحضر ابنته إلى الخيمة ليتسنى لها الوصول إلى الإنترنت ومراجعة دروسها وتقديم امتحاناتها.

محمد سلامة، المعروف بـ”الأسمر”، مصور قناة الجزيرة، حمل معه قصة حب وسط الموت، إذ خطب زميلته الصحافية هلا عصفور خلال الحرب. كان صحافيًا جريئًا ملتزمًا بإجراءات السلامة، حريصًا على التميز في عمله. خطوبته كانت بارقة أمل وسط الخراب، محاولة لسرقة لحظة فرح من بين براثن الموت. لكن القصف الإسرائيلي أنهى هذه الحكاية، وفرّق بينه وبين خطيبته.

معاذ أبو طه، صحافي يعمل في شبكة NBC الأميركية، قُتل بطريقة مأساوية حين انشطر رأسه عن جسده بفعل قذيفة سقطت على مجمع ناصر الطبي. عُرف بأنه “الصحافي الإنسان”، فقدّم قصص الأطفال المرضى للعالم، وساعد في نقلهم للعلاج خارج القطاع. طوّر معاذ عمله خلال الحرب، ووصلت قصصه إلى العالم، وكان حلمه – مثلنا جميعًا – النجاة والتفرغ لاحقًا لتوثيق ما أنجزه الإعلام في هذه الحرب.

الصحافي والأكاديمي الاستقصائي حسن دوحان قُتل في اليوم نفسه، تاركًا أعمالًا صحافية شاهدة على تميزه. درس الإعلام في جامعات غزة، وشارك في ورش تدريبية، وساهم في تدريب صحافيين شباب، لكن نهايته كانت أن أصبح هدفًا للجيش الإسرائيلي.

أما أحمد أبو عزيز، سادس الضحايا، فكان صحافيًا وباحثًا في برنامج الدكتوراه بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس.

غياب الحقوق

بعد هذه المقتلة، سارعت وسائل الإعلام الدولية التي كان يعمل فيها الزملاء، إلى نفي أي علاقة رسمية بهم، مكتفية بالقول إنهم “متعاونون”، على رغم أنهم كانوا يرسلون يوميًا مواد وتقارير من قلب الإبادة.

يعكس هذا الوضع حجم الاستغلال الذي نتعرض له نحن صحافيو غزة، حيث يُقدَّم جهدنا كوقود للمحرقة، من دون أي حماية أو ضمان لحقوقنا.

مؤسسات إعلامية دولية كثيرة سحبت موظفيها الأساسيين من غزة، ومن بقي منهم لا يُطلب منه أداء مهام خطرة، بينما يُلقى بالعبء على الصحافيين المحليين الباحثين عن أي فرصة عمل، من دون أي تأمين أو حماية.

هذه المؤسسات مُلزمة قانونيًا بدفع تعويضات كبيرة لموظفيها إذا أصيبوا في مناطق النزاع، لكنها تتنصل من ذلك عمليًا مع “المتعاونين” المحليين، فتُريح نفسها من أي التزامات مادية أو قانونية تجاههم.

ما حدث مع الصحافيين في غزة يجب أن يكون جرس إنذار لمن بقي في الميدان؛ على كل من يعمل مع هذه المؤسسات أن يطالب بعقد واضح يضمن حقوقه ويلزمها بمسؤولياتها، وإلا فإن التغطية لصالحها لن تكون إلا انتحارًا مجانيًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى