منبر الكلمة

قلق الملك مشروع

القس سامر عازر

في خطاب العرش السامي الذي ألقاه جلالة الملك عبد الله الثاني أمام مجلس الأمة العشرين في دورته العادية الثانية، يوم الأحد السادس والعشرين من تشرين الأول عام 2025، لم يكن الملك يخاطب ممثلي الشعب وحسب، بل كان يخاطب ضمير الوطن كله، بلغة القائد الذي يرى بعين البصيرة ويتحدث بصدق القلب. في كلماته لم يكن هناك ترف السياسة ولا صدى البروتوكول، بل حديث إنسان يعرف أن الزمن لا ينتظر أحداً، وأن الوطن بحاجة إلى يقظة دائمة ومسؤولية صادقة.

حين قال جلالته عبارته المؤثرة: «يسألني البعض: هل يقلق الملك؟ نعم، يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله»، كان في الحقيقة يضع أمامنا مرآةً للقيادة المسؤولة، التي لا تتزيّن بالثقة الفارغة، بل تتسلّح بالوعي والحكمة والتواضع أمام حجم التحديات. فالقلق الذي تحدّث عنه الملك ليس ضعفاً، بل هو وعيٌ متقد، وشعورٌ نبيل بالمسؤولية تجاه الوطن والإنسان والمستقبل.

قلق الملك ليس خوفاً على العرش ولا على السلطة، بل هو قلق المحبّ على بيته، والراعي على رعيّته، والإنسان على مصير أمته. هو قلقٌ نابع من الإحساس بقدسية الأمانة التي يحملها في قلبه وضميره، وهو في جوهره حافزٌ نحو العمل والإنجاز لا نحو التردد والانكفاء. فالملك، وهو يعبّر عن قلقه، يدعونا جميعاً لأن نشاركه هذا القلق الشريف، وأن نحوله إلى طاقة بناءٍ ومراجعةٍ وتجديد.

في حديثه عن الإصلاح، أشار جلالته بوضوح إلى أن الطريق ما يزال طويلاً، وأن ما تحقق حتى الآن ليس إلا بداية لمسيرةٍ تتطلب صبراً وجهداً وتعاوناً بين الجميع. إنه صوت القائد الذي لا يرضى بالمظاهر ولا بالاكتفاء بما تحقق، بل يسعى إلى عمق الإصلاح وإلى التغيير الحقيقي في حياة المواطن. إن قلق الملك هنا هو قلق المسؤول الذي يعرف أن الأمانة لا تُختزل في الإنجاز المادي فحسب، بل في كرامة الإنسان وحقوقه وعدالة فرصه، وفي بناء الدولة الحديثة التي يليق بها أبناؤها.

اللافت في الخطاب أن جلالته لم يوجّه حديثه إلى النخب فحسب، بل إلى المواطن العادي أيضاً، إلى كل من يعيش على تراب هذا الوطن ويطمح إلى حياةٍ كريمةٍ ومستقبلٍ آمن. لقد عبّر عن قلقه على الإنسان الأردني، على تعليمه وصحته ومعيشته، على قدرته على الإسهام في بناء وطنه بكرامةٍ وثقة. فحين يقلق القائد على الإنسان، فذلك دليل على أن ضميره حيّ، وأن إنسانيته سابقة على كل حسابٍ سياسي أو مصلحي.

ولأن الأردن لا يعيش في فراغ، فقد جاء في خطاب العرش تذكيرٌ صادقٌ بأن القلق الملكي يمتد إلى قضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والقدس الشريف. تحدث جلالته عن معاناة غزة، وعن ضرورة دعم الأشقاء الفلسطينيين في نيل حقوقهم المشروعة وإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. إن هذا القلق على فلسطين ليس سياسياً فقط، بل هو قلق الضمير، وقلق الإيمان بالعدالة، وقلق الدور التاريخي والرسالة الأخلاقية التي حملها الأردن منذ نشأته.

إن القلق الذي عبّر عنه الملك هو قلق المحبة، لا قلق الخوف. هو قلق نابع من الإيمان بأن الوطن أمانة في أعناق الجميع، وأن القيادة الصادقة هي التي تجرؤ على مصارحة شعبها بالحقيقة. فالملك لا يخشى المستقبل بل يعمل له، ولا يتحدث من موقع المطمئن الخالي من الهمّ، بل من موقع المسؤول الذي يرى أكثر مما نرى، ويشعر بثقل الأمانة التي يحملها.

في زمنٍ تتسارع فيه التحديات وتتشابك الأزمات، يصبح القلق المشروع فضيلةً وطنية. فهو دعوة لكل مواطنٍ أن يكون شريكاً في حمل المسؤولية، لا متفرجاً على المشهد. دعوةٌ لأن نحول القلق إلى حافز، والإيمان إلى فعل، والانتماء إلى التزامٍ عملي. فالمحب الحقيقي لا ينام على راحته بينما وطنه في سباقٍ مع الزمن، والوفيّ لا يكتفي بالكلام بينما البناء ينتظر الأيدي والعقول.

نعم، قلق الملك مشروع، لأنه قلق الحب والمسؤولية، وقلق القائد المؤمن بأن الطمأنينة الحقيقية لا تأتي إلا من العمل الصادق ومن الإخلاص لله والوطن. هو القلق الذي يوحّدنا لا الذي يفرّقنا، الذي يفتح أعيننا على الواجب لا الذي يزرع فينا الخوف. وهو في النهاية دعوةٌ لنا جميعاً لأن نحيا بوعي، ونخدم بوطنية، ونبقى أوفياء للأردن كما أراده قائده: وطناً ثابتاً في وجه العواصف، مشعّاً برسالته، وراسخاً في محبته، وعزيزاً بكرامة إنسانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى