
أيوب سعد – صحافي عراقي
إنها علاقة “توكسيك” بكل معنى الكلمة، يحب الجمهور منتخبه حتى الجنون، لكنه في الوقت نفسه لا يثق بالمؤسسة التي تديره، يقف في وجهه كل ما يمكن أن يفسد متعة الانتماء، ومع ذلك يظل يسانده، علاقة تستهلك العاطفة وتستنزف الثقة، لكنها لا تموت.
لا شيء يوحّد العراقيين كما تفعل كرة القدم، لا الأحزاب ولا الخطابات ولا المناسبات الوطنية قادرة على أن تجمع هذا البلد المتعب مثلما يفعل فوز لمنتخبهم الوطني، حين يسجل أحد “أسود الرافدين” هدفًا. حينها تذوب الفوارق الطائفية والعشائرية، ويصبح الهتاف واحدًا، والعلم واحدًا، والفرح واحدًا. في تلك اللحظات، لا فرق بين بغداد والرمادي، بين البصرة وأربيل، بين الفقير والغني، الكل يتكئ على أمل صغير بأن هذا الفريق يمكن أن يعيد إليهم ما سلبته السياسة والحروب.
لكنها علاقة عاطفية معقّدة، أشبه بقصة حبٍّ من طرف واحد، الجمهور مخلص حتى الألم، والمنتخب ومعه الاتحاد يتصرف أحيانًا كعاشقٍ متعبٍ لا يعرف ماذا يريد، الفرح حين يأتي، يأتي على استحياء، ومعه خوف دفين من أن يتحول إلى خيبة جديدة. في كل تصفيات لكأس العالم يتجدد الحلم، يخرج الناس إلى الشوارع، يرفعون الرايات، ويؤمنون أن “هذه المرة مختلفة”، لكن سرعان ما تتبدد الأحلام في غبار الفوضى الإدارية والتخبط الفني، لتبدأ الدورة الأزلية: حلم، فرح، انكسار، ثم حلم جديد.
في بلدٍ أثقلته الحروب وبددت الأزمات موارده، لم تعد كرة القدم رياضة فحسب، بل متنفسًا جماعياً، حين تفرح الجماهير بفوز المنتخب، فهي لا تحتفل بنقاطٍ في جدول التصفيات، بل تنتزع لحظة نادرة من الفرح في واقع لا يمنحها الكثير منه. كرة القدم في العراق ليست تسلية، بل طقسٌ شعبيٌ يشبه الأعياد، إذ تمتزج فيها العواطف بالهوية والانتماء، والحنين بالمقاومة.
حتى أولئك الذين فقدوا الإيمان بكل شيء من السياسة إلى العدالة، ما زالوا يؤمنون بالمنتخب، يعلقون على صدورهم العلم، غير أن هذا الإيمان البسيط، الذي يمكن أن يكون رافعةً وطنية لو استُثمر بصدق، صار هو الآخر عرضة للتشويه، تمامًا كما شُوّهت مؤسسات الدولة الأخرى.
منذ سنوات، والعراقيون يسمعون عن “إصلاح” في اتحاد كرة القدم، وعن “خطة لبناء جيل جديد”، وعن “استراتيجية تأهيل” للمواهب الشابة، لكن الواقع يقول إن كل هذه الوعود تتعثر عند أول اختبار، غياب الإدارة الرشيدة، المحسوبيات، التعيينات السياسية، والتمويل المشبوه، كلها عوامل أفرغت الرياضة من مضمونها الوطني، وحوّلتها إلى حقل نفوذ ومصالح مالية.
ولم يعد الأمر مجرد كلام الشارع، فقبل أيام، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية بيانًا مطولًا أعلنت فيه فرض عقوبات على عدد من الشخصيات العراقية بدعوى تورطها في دعم وتمويل جماعات مرتبطة بالنظام الإيراني، وتهريب أموال وسلع للالتفاف على العقوبات المفروضة على طهران. وجاء في البيان أن بعض هؤلاء الأفراد يحتلون مواقع حساسة في القطاع الرياضي ويمارسون أنشطة مالية لصالح جهات سياسية ومسلحة موالية لإيران، بينها مؤسسات يُفترض بها الحياد الوطني الكامل.
من بين الأسماء التي وردت في البيانات الأميركية، كان رئيس اللجنة الأولمبية العراقية علي مفتن خفيف البيضاني وشقيقه عقيل، اللذان اتُّهما وفق وزارة الخزانة بإدارة بنك عراقي مرتبط بـ”فيلق القدس”، وتسهيل عمليات غسيل أموال وتحويلات مالية لصالح جماعات مسلحة. الوزارة قالت إن الشقيقين استغلا مناصبهما الرسمية في الرياضة العراقية للحصول على الدولار الأميركي وتهريب عائدات الفساد، وإن ممتلكاتهما جُمّدت داخل الولايات المتحدة.
هذه الاتهامات، بغضّ النظر عن مسارها القضائي والسياسي، كانت كافية لتفتح باب التساؤل الأهم: لماذا لا توجد جهة عراقية مستقلة تعمل لمصلحة البلاد فقط؟ كيف تحوّل حتى الفرح الرياضي إلى مساحة للتربح والولاءات الخارجية؟
منذ عام 1986، حين شارك العراق للمرة الأولى في كأس العالم بالمكسيك، لم يفقد العراقيون الأمل بتكرار تلك اللحظة، تلك المشاركة كانت رمزًا للكرامة أكثر منها حدثًا رياضيًا، فقد جاءت في زمن الحرب، وكانت رسالة أن العراق قادر على النهوض برغم الجراح، ومنذ ذلك الحين، صار التأهل إلى كأس العالم حلمًا وطنياً مؤجلًا، يتجدد كل أربع سنوات، ثم ينهار بفعل الإهمال، التخطيط المرتجل، وتسييس الرياضة.







