منبر الكلمة

شحادة مطر… من وراء الكواليس إلى صدارة المشهد الثقافي في الإذاعة الأردنية

عماد الشبار
شحادة مطر واحد من الأسماء التي ساهمت بجهد متواصل في تأسيس مسيرة الإذاعة الأردنية وتطوير برامجها، ليكون صوتًا وإدارةً خلف الكواليس، شكلت بصمة واضحة في بناء محتوى ثقافي وإعلامي هادف.لقد كان مهندسًا للهوية الإذاعية الأردنية التي تنوعت بين الأدب والموسيقى والخدمة العامة، وعزز من حضور الإذاعة في وجدان المستمع الأردني عبر عقود من الزمن.
التحق شحادة مطر بالإذاعة الأردنية عام 1981، في فترة كانت الإذاعة لا تزال منبرًا أساسيًا للإعلام الوطني، ومصدرًا رئيسيًا للمعلومة والثقافة والترفيه. امتلك منذ بداياته حسًا ثقافيًا ورؤية تنظيمية، ما أهله سريعًا للانتقال من مهام الإعداد والتقديم إلى مواقع صنع القرار في إدارة البرامج.
نال تدريبًا مكثفًا في فنون الإعداد والإنتاج الإذاعي، الأمر الذي أهلّه للارتقاء بسرعة في المواقع الإدارية، ليشغل منصب مدير البرامج، حيث أسهم في تحويل قسم البرامج من مجرد وحدة تنفيذية إلى مركز تنفيذي متكامل يضع الخطط ويضع جدول البث، ويراعي التنويع والاحتياجات الثقافية للمستمع.
كان شحادة مطر صوتًا إداريًا ذا رؤية، حيث عمل على تطوير بنية البرامج الإذاعية بشكل يحقق توازنًا بين الترفيه والثقافة والخدمة المجتمعية. من أهم إسهاماته:
إعادة هيكلة قسم البرامج: حيث حوله من فرقة عمل بسيطة إلى غرفة عمليات متكاملة تخطط للهوية العامة للبث الإذاعي، مع ضبط الجودة الفنية.
كان له دور بارز في تدريب وتأهيل العديد من المذيعين والمذيعات الشباب، خصوصًا في فترة كان فيها المجال الإعلامي تحديًا للوجوه الجديدة، لا سيما النسائية، فكان داعمًا لظهور أصوات نسائية مميزة في الساحة الإذاعية الأردنية.
أبرز البرامج التي أشرف عليها وأطلقها
برنامج “شعر وموسيقى”
برنامج ليلي يجمع بين أدب الشعر العربي والموسيقى الكلاسيكية، استمر لسنوات عديدة وأصبح علامة في تاريخ الإذاعة الأردنية. قدم البرنامج بفضل الدعم والتشجيع الذي وجده من إدارة البرامج بقيادة مطر، حيث ساهم في إحياء التراث الأدبي والفني بين الجمهور.
برنامج “تذكرة سفر”
مجلة إذاعية أسبوعية جمعت بين الدبلوماسية والثقافة، استضافت سفراء وشخصيات دولية تحدثوا عن بلدانهم بعيدًا عن السياسة الصراعية. كان هذا البرنامج بمثابة نافذة للأردنيين للتعرف على ثقافات العالم بوجه إنساني، وبرز في فترة ما كان فيها الإعلام الإعلامي الأردني يخطو خطواته الأولى في الانفتاح الثقافي.
“صباح الخير يا عمّان”
برنامج صباحي جمع بين نشرات الأخبار الخفيفة والموسيقى التي تهيئ أجواء إيجابية لبداية اليوم، وكان ضمن البرامج التي حرص مطر على تطويرها لتصبح نقطة تواصل يومية مع المستمعين.
“حديث المساء”
برنامج مسائي تفاعلي حمل طابع المسامرة الثقافية والاجتماعية، استضاف فيه كتابًا، أطباء، وفنانين، وناقش مواضيع متنوعة بأسلوب هادئ وحواري.
“بريد المستمعين”
من البرامج التي فتحت جسور التواصل مع الجمهور، حيث استمع إلى رسائل المستمعين سواء المدح أو النقد، وحرص مطر على تحليل هذه الملاحظات بجدية لتحسين جودة البث.
وُصف شحادة مطر بأنه المدير الهادئ والمصغي، الذي يفضّل النقد البنّاء والملاحظات المكتوبة بدلًا من الانفعال. كان يؤمن بضرورة منح كل مذيع فرصة للتطوير والنمو، وشكّل مصدر إلهام ودعم للكثيرين في بداياتهم المهنية، بما عزز ثقتهم بأنفسهم ورسخ قدراتهم الإعلامية
يعتبر مطر من المساهمين الأساسيين في ترسيخ هوية الإذاعة الأردنية الثقافية، إذ أصر على وجود حصص منتظمة للأدب والفنون والفكر، مساهمًا بذلك في بناء ذاكرة ثقافية للمستمع الأردني. كما كان من أوائل الذين أدخلوا مفهوم «المجلة الإذاعية» التي تتضمن فقرات متنوعة داخل البرنامج الواحد، مما أسهم في جذب جمهور أوسع وإثراء التجربة الإذاعية.
منذ العام 1992 وحتى مغادرته الإذاعة عام 2018، تولّى شحادة مطر الإشراف الكامل على الدراما الإذاعية، منتجًا عشرات المسلسلات التي كتبها أدباء وكتّاب أردنيون، ومشركًا في تمثيلها معظم الفنانين الأردنيين – إن لم يكن جميعهم – في وقت كانت فيه الدراما التلفزيونية تعاني من التراجع، ويواجه الفنانون الأردنيون بطالة قاسية. ومن أبرز إنجازاته في هذا المجال تحويل عدد كبير من روايات الروائيين الأردنيين إلى مسلسلات إذاعية عالية الجودة، ما أتاح لهؤلاء الكتّاب فرصة كتابة نصوص درامية بمستوى رفيع من الحرفية. وقد حصلت هذه الأعمال على جوائز في مهرجانات عربية، كما حدث مع روايات هاشم غرايبة، سميحة خريس، جمال ناجي، وزياد قاسم.
وفي هذه الفترة، سنّت الإذاعة الأردنية – بجهد وإصرار من مطر – سُنّة حميدة بإقرار حق المؤلف المادي للرواية إلى جانب حق كتابة سيناريوها، مما أسهم في الارتقاء بفن الدراما الإذاعية وتشجيع الأدباء على خوضه.
كما لعب دورًا بارزًا في لجنة خاصة بالأغنية الأردنية برئاسة مديرة الإذاعة فريال زمخشري وعضوية الشاعر الراحل محمد لافي، حيث تولّت اللجنة اختيار النصوص الغنائية، والملحنين، والمطربين المشاركين في مهرجان الأغنية العربية الذي يقام سنويًا في إحدى الدول العربية. وحققت الإذاعة الأردنية بفضل هذا العمل المشترك أربع جوائز ميكروفون ذهبي – وهي الجائزة الممنوحة للعمل الغنائي نصًا ولحنًا وأداءً – إضافة إلى عشرات الجوائز الأخرى المرتبطة باللحن أو النص أو الأداء.
لم يقتصر دوره على الدراما والأغنية، بل تواصل مع عدد كبير من الأدباء والكتّاب الأردنيين لإعداد وتقديم برامج ثقافية مدفوعة الأجر، كما تعاون مع أساتذة جامعات لتقديم برامج ثقافية متنوعة. أعدّ وقدم بنفسه برامج مميزة مثل: “روايات عربية”، “من الأدب العالمي”، “مجلة الثقافة”، “من مكتباتهم”، “رسائل جامعية”، إلى جانب إشرافه المباشر على العديد من البرامج الثقافية التي يقدمها مذيعو الإذاعة أو المتعاونون معها.
وبالإضافة إلى عمله الإذاعي، كُلّف مطر لمدة 14 عامًا بمهمة مراقب الدراما في التلفزيون الأردني، حيث تولّى إجازة النصوص الدرامية وتقييمها موضوعيًا وفنيًا، بما ساهم في الحفاظ على مستوى الإنتاج التلفزيوني الأردني وضبط جودته
يبقى شحادة مطر من الشخصيات الإعلامية التي صنعت بصمة لا تُنسى في الإذاعة الأردنية، عبر مزيج من الإدارة الحكيمة، الرؤية الثقافية العميقة، والالتزام الرسالي بالإعلام الهادف. هو نموذج لصانع الإعلام الذي لا يظهر دائمًا أمام الكاميرا، لكنه يملك التأثير الحقيقي في تشكيل الصوت والإيقاع الذي نسمعه على الموجات الإذاعية.
هكذا، صنع شحادة مطر سجلاً إذاعيًا وثقافيًا خالدًا، جمع فيه بين التخطيط الإداري والابتكار الفني والدعم الإنساني للمبدعين، ليبقى واحدًا من الأسماء التي يصعب تكرارها في تاريخ الاذاعة الاردنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى