منبر الكلمة

د. شهاب المكاحله: هل تصبح سوريا العقدة العسكرية الجديدة لواشنطن في الشرق الأوسط؟

د. شهاب المكاحله

في السنوات الماضية، بدا أن تموضع الولايات المتحدة العسكري في الشرق الأوسط يدخل مرحلة إعادة تشكيل هادئة. فالوجود الواسع في الخليج، الذي شكّل عمود الردع الأميركي منذ الحرب الباردة، لم يعد محصّناً كما كان أمام التحولات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية. ومع صعود الصين كقوة بحرية، وعودة روسيا إلى شرق المتوسط، وتعقّد علاقة واشنطن مع عدد من عواصم الشرق الأوسط، يصبح السؤال مطروحاً بقوة: هل تبحث الولايات المتحدة عن “مركز ثقل بديل” في المنطقة؟

واحدة من الفرضيات المتداولة اليوم في الأوساط السياسية والإعلامية تتحدث عن تحوّل سوريا إلى مسرح لإنشاء قواعد أميركية جديدة، تكون جزءاً من إعادة توزيع القوة الأميركية، بحيث يخفّ الاعتماد على منظومة القواعد الضخمة في الخليج، دون التخلي عنها بالكامل.

هذه الفرضية تستحق نقاشاً معمقاً لأربع اعتبارات جوهرية:

أولاً: الجغرافيا السورية: عقدة تحكم لا يمكن تجاهلها

فسوريا تقع عند تقاطع ثلاثة محاور استراتيجية: محور آسيا-المتوسط الذي يربط الأسواق الأوروبية بممرات الطاقة ومحور المشرق-الخليج الذي تمر عبره خطوط الإمداد ونقاط الأنابيب المحتملة ومحور روسيا–تركيا–إيران الذي يتنافس على مستقبل النظام السوري.

من هذه الزاوية، تبدو سوريا بالنسبة لواشنطن فرصة للتموضع في منطقة تمنحها: قدرة على مراقبة شرق المتوسط وممارسة الضغط الجيوسياسي على موسكو وطهران وتأسيس منصة استخبارية برية قريبة من العراق ولبنان والأردن والسيطرة على مفاصل النفط والطرق في الشرق السوري.

بمعنى آخر، قواعد في سوريا تعني استعادة موقع مركزي فقدته واشنطن تدريجياً بعد 2011.

ثانياً: حماية إسرائيل (البُعد الاستراتيجي الذي لا يمكن تجاهله)

حماية إسرائيل تبقى أحد الأعمدة الثابتة في الحسابات الأميركية والغربية في المنطقة، وهي تدخل في صلب أي تحرك—سواء عسكري، استخباراتي، سياسي أو دبلوماسي — خاصة في بيئة إقليمية تتداخل فيها الملفات: السودان، البحر الأحمر، اليمن، إيران، وغيرها من الملفات المعقدة.

والسؤال هنا: كيف يظهر هذا في السياق الحالي؟

واشنطن تراقب بدقة أي تحالفات إقليمية قد تمنح إيران، أو وكلاءها (حزب الله، الحوثيون)، أو قوى مسلحة من غير الدول، مساحة مناورة إضافية يمكن أن تغيّر قواعد الاشتباك ضد إسرائيل. كما أن أمن الملاحة في البحر الأحمر ليس مرتبطاً بالتجارة فقط، فبالنسبة لواشنطن وتل أبيب، هذا الممر يمثل خط دعم لوجستي وعسكري في أي حرب متعددة الجبهات. فتهديد هذا الخط يعني تهديد قدرة إسرائيل على الصمود في حرب طويلة.

السودان والملف الإسرائيلي

إسرائيل كانت من أوائل الداعمين لمسار التطبيع مع السودان. فاستمرار الفوضى أو تدفق الميليشيات يخلق بيئة سلاح وبشر يمكن أن تصل إلى جبهات أخرى. هذا الجانب حاضر بقوة في تقييمات الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية.

احتواء إيران كخلفية دائمة

أي مشهد إقليمي — من انقلاب محتمل في الشرق الأوسط، إلى زيادة نفوذ دولة ما في القرن الأفريقي — يقيم بشكل أوّلي: هل يقوي إيران أو يضعفها؟ وهل يؤثر ذلك على أمن إسرائيل؟

ثالثاً: الخليج لم يعد مساحة ارتياح استراتيجي

الولايات المتحدة لن “تغادر” الخليج. هذا أمر حتمي. لكنها قد تتحول من استراتيجية “التمركز” إلى استراتيجية “القدرات المحدودة والمرنة” من حيث اعتماد أكبر على “الردع عن بعد” وتخفيض حجم القوات البرية وتعزيز الدفاعات الجوية والبحرية دون قواعد عملاقة والاحتفاظ بقواعد دعم ولوجستيات وليس قواعد قتالية ضخمة.

ما هي الأسباب التي تدفع واشنطن لذلك؟

أولى تلك الأسباب يكمن في تنامي استقلالية بعض دول الإقليم في القرارات الأمنية، وتعاونها المتزايد مع الصين وروسيا. وثانيها هو ارتفاع الكلفة السياسية لحماية أنظمة تتخذ سياسات لا تتماشى أحياناً مع المصالح الأميركية. ثالثها، نضوج القدرات الدفاعية الخليجية بحيث لا تحتاج لوجود أميركي كثيف كما كانت سابقاً. ورابعها، رغبة واشنطن في تجنب تكرار سيناريو استهداف قواعدها كما حصل في العراق 2020.

في ظل ذلك، يصبح من المنطقي أن تبحث الولايات المتحدة عن عقدة عسكرية جديدة تتحكم بالشرق الأوسط من زاوية مختلفة، دون البقاء رهينة جغرافيا الخليج وحده. وهنا تدخل سوريا إلى الصورة.

رابعا: شرق الفرات: نموذج قاعدة “أميركية صامتة”

منطقة شرق الفرات أثبتت خلال العقد الأخير أن واشنطن تستطيع أن تمتلك: قوات فعّالة قليلة العدد، وقدرات استخبارية دقيقة، وحرية حركة جوية واسعة وشبكة حلفاء محليين وقواعد صغيرة متعددة بدل قاعدة ضخمة واحدة.

هذا النموذج يمكن توسعته إلى شبكة قواعد أميركية خفيفة تمتد من الحسكة إلى التنف، بحيث تُشكّل: حاجزاً أمام التمدد الإيراني ونقطة خنق أمام خطوط الإمداد بين طهران – بغداد – دمشق – بيروت ومنصة مراقبة على الحدود التركية ومرصداً متقدماً على التواجد الروسي وورقة ضغط على النظام السوري في أي تسوية سياسية قادمة.

بمعنى آخر، سوريا تعطي واشنطن ما لا تعطيها إياه دول الخليج: القدرة على التأثير المباشر في قوس الصراع البرّي للمنطقة.

من الخليج إلى سوريا: ليس انسحاباً… بل إعادة توزيع نفوذ

من الخطأ قراءة أي تمركز أميركي في سوريا باعتباره انسحاباً من الخليج. بل الصيغة الأدق هي: واشنطن تتحول من “قواعد كبيرة في الخليج” إلى “قواعد متعددة صغيرة في سوريا والخليج معاً”.

هذا التحول يحقق للولايات المتحدة: تخفيض الكلفة السياسية والاقتصادية وتجنب وضع قواتها داخل مرمى الصواريخ الإيرانية مباشرة والاحتفاظ بنقاط ارتكاز بحرية في الخليج وامتلاك شبكة قواعد برية تطل على ثلاث أزمات: العراق – سوريا – لبنان – فلسطين.

فإذا تمت هذه الاستراتيجية، ستكون واشنطن قد صنعت لأول مرة توازن تموضع بين الخليج وشرق المتوسط، بحيث لا تصبح أسيرة لدولة واحدة أو اقليم واحد.

والخلاصة هي أن سوريا قد تتحول إلى “عقدة السيطرة” الأميركية الجديدة، إذا سمحت الظروف. فإقامة قواعد أميركية واسعة في سوريا هي جزء من تفكير استراتيجي أميركي قديم–جديد يقوم على: تحويل سوريا إلى منصة مراقبة وضغط. وتقليل الاعتماد على الخليج دون التخلي عنه وإعادة تشكيل الخريطة العسكرية الأميركية بما يناسب عصر المنافسة مع الصين وروسيا.

والسؤال الحقيقي ليس: هل ستقيم أميركا قواعد في سوريا؟

بل: هل تستطيع واشنطن تأمين بيئة سياسية وعسكرية تجعل هذه القواعد خياراً قابلاً للحياة؟

هذا ما سيحدده الصراع في سوريا، والعلاقة مع تركيا، والتفاهمات مع الخليج، وإيقاع الحرب الباردة الجديدة بين واشنطن وبكين.

إن نجحت واشنطن في ذلك، فقد يكون شرق الفرات هو البنتاغون الجديد للشرق الأوسط… وإن فشلت، ستبقى سوريا ساحة نفوذ روسي – إيراني، تراقبها أميركا من بعيد دون قدرة على الهيمنة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى