
بقلم د. خلدون نصير / المدير المسؤول
من الواضح أنّ المنطقة تعيش مرحلة مفصلية جديدة بعد الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادات في حركة حماس بالدوحة، وما تبعها من تصريحات مباشرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حين قال إنه سيلاحق قيادات الحركة في أي مكان بالعالم، وأنّ لا دولة فلسطينية ستقوم أبداً.
هذا المزيج بين التصعيد الميداني والاغتيالات العابرة للحدود وبين الموقف السياسي المعلن ضد حل الدولتين يكشف أنّنا أمام سياسة متكاملة، لا مجرد ردود فعل متفرقة، فإسرائيل تحاول أن تحسم اتجاهات الصراع: غزة تبقى رهينة للحصار والضربات، والضفة الغربية تُقطّع أوصالها بمشاريع استيطان مثل E1 الذي يعزل القدس الشرقية ويقضي عملياً على أي تصور لدولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة.
في غزة يبدو أنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً ليس التهجير الجماعي خارج القطاع، رغم وجود وثائق وخطط تطرح فكرة النقل القسري أو ما يسمونه “مناطق إنسانية”، بل الإبقاء على الغزيين في بيئة خانقة بلا أفق سياسي، تعيش على هدَنٍ متقطعة وترتيبات إنسانية مؤقتة.
هذا الواقع أشبه بعملية دفع بطيئة نحو الاستنزاف، حيث لا يموت المشروع الفلسطيني دفعة واحدة، بل يظل معلقاً بين حياة مشلولة وموت مؤجل. وفي الضفة الغربية، يتعزز كل يوم واقع الضمّ الفعلي، فيما السلطة الفلسطينية تزداد ضعفاً أمام تغول الاستيطان وتراجع الأفق الاقتصادي.
إلى جانب ذلك، هناك بُعد حساس يتعلق بالفلسطينيين الذين يعيشون داخل الضفة لكنهم يحملون وثائق مختلفة؛ فبعضهم بهوية فلسطينية صادرة عن السلطة، وآخرون بجوازات أردنية مؤقتة من دون رقم وطني، ومقدسيون بهويات زرقاء تضعهم تحت القانون الإسرائيلي.
هذه الفروقات القانونية ليست شكلية، بل هي فجوة تجعل فئات واسعة من الناس أكثر عرضة للتضييق أو الضغط الإداري والحرمان من الحقوق، وتفتح الباب لاستغلال سياسي في لحظات الأزمات. ومع أي تصعيد قادم، فإن الأكثر هشاشة في وضعهم القانوني سيكونون أول من يدفع الثمن.
على الصعيد الدولي، يزداد الخطاب قوةً في الأمم المتحدة وعواصم الغرب حول ضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن الواقع الميداني يذهب في الاتجاه المعاكس تماماً، حيث توسع الاستيطان يُترجم يومياً على الأرض، وتصريحات نتنياهو ووزرائه لا تترك مجالاً لأي لبس في الموقف، وهذا التناقض يوضح أن المجتمع الدولي يكتفي بإصدار بيانات وإعلانات، لكنه لا يمتلك الأدوات ولا الإرادة لفرض أي تغيير جوهري على الأرض.
خلال الأشهر المقبلة يمكن توقّع استمرار الضربات الإسرائيلية المركزة على غزة، وتكرار سيناريو الاغتيالات خارجها، إلى جانب تشديد الخناق على الضفة وفتح الطريق أمام موجات جديدة من التوتر والعنف.
أما الإقليم فسيبقى عالقاً في دائرة التنديد اللفظي والصمت العملي، بين دول مطبعة توازن بين مصالحها وضغوط شعوبها، ودول أخرى تكتفي بالدعوات الإنسانية. وفي المحصلة، فإن الفلسطينيين اليوم أمام واقع يُدار بالقوة والإكراه، بينما تُدفن فكرة الدولة تحت ركام الخرائط الاستيطانية، ويُترك الشعب لمصيره بين قسوة الاحتلال وصمت العالم.
وإذا كان هناك سؤال يطرح نفسه اليوم فهو ليس متى تُعلن الدولة الفلسطينية، بل كيف يمكن منع موتها البطيء قبل أن تولد، في ظل معادلة لا يبدو أنها ستتغير قريباً.








