
آفاق نيوز – من بين وثائق الأرشيف البريطاني، لا سيما تلك المحفوظة تحت الرقم المرجعي FCO 178/1828، يتكشف لدينا من ناحية جانب من العملية الدبلوماسية والمخاوف الأمنية والانقسامات الداخلية داخل منظمة التحرير خلال هذه الأزمة، فضلاً عن التوتر بين التصريحات العامة للقيادة الفلسطينية والضغوط السياسية التي كانت تواجهها، ومن ناحية أخرى القلق الدولي من احتمال ارتباط المنظمة بأعمال عنيفة مؤيدة للعراق، والتنسيق الدبلوماسي مع الحكومات الغربية لتفادي أي تصعيد محتمل.
شكلت الأزمة الخليجية خلال تسعينيات القرن الماضي، أثناء غزو العراق للكويت، نقطة تحول محورية في تاريخ الشرق الأوسط، إذ اجتمعت التداعيات الإقليمية والدولية في معركة سياسية وعسكرية تركت بصماتها على مواقف القوى الإقليمية، وفي مقدمها منظمة التحرير الفلسطينية.
في تلك الأزمة، كانت منظمة التحرير أمام اختبار عسير، لا سيما بعدما ضاقت خيارات الحركة لديها، وباتت أمام ضرورة إبداء موقف سياسي واضح تجاه العراق والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مع مراعاة أن توازن بين مصالحها الوطنية والضغوط الداخلية، ووقع الأحداث على صورتها الدولية.
من بين وثائق الأرشيف البريطاني، لا سيما تلك المحفوظة تحت الرقم المرجعي FCO 178/1828، يتكشف لدينا من ناحية جانب من العملية الدبلوماسية والمخاوف الأمنية والانقسامات الداخلية داخل منظمة التحرير خلال هذه الأزمة، فضلاً عن التوتر بين التصريحات العامة للقيادة الفلسطينية والضغوط السياسية التي كانت تواجهها، ومن ناحية أخرى القلق الدولي من احتمال ارتباط المنظمة بأعمال عنيفة مؤيدة للعراق، والتنسيق الدبلوماسي مع الحكومات الغربية لتفادي أي تصعيد محتمل.
ومن خلال التحليل المتسلسل لهذه المواد، يمكن فهم ديناميات اتخاذ القرار داخل المنظمة، ومدى الاستجابة للضغوط الخارجية، والتأثيرات المحتملة لتصريحاتها على موقعها الإقليمي والدولي. ويسمح الملف بإعادة تقييم الأحداث من منظور تاريخي موثق، بعيداً من التفسيرات الإعلامية أو الدعاية السياسية، مقدماً بذلك مادة غنية للباحثين في السياسة الدولية، وتاريخ الشرق الأوسط، ودراسة الحركات الوطنية في ظل النزاعات الإقليمية.
مواقف مبدئية “مربكة”
مع اندلاع حرب الخليج خلال يناير (كانون الثاني) 1991، أصدرت وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” بياناً رسمياً يعكس موقف منظمة التحرير الفلسطينية تجاه الصراع العسكري بين العراق والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وجاء البيان، وفقاً لتقارير وكالة “رويترز” ووزارة الخارجية البريطانية، متهماً التحالف الأميركي – الإسرائيلي – الأوروبي بـ”العدوان الجبان” على العراق، وداعياً إلى مقاومة هذا العدوان على جميع المستويات. ووجه البيان نداءً مفتوحاً إلى الدول العربية والإسلامية، وشعوب العالم الثالث، وكل الرجال الأحرار والنبلاء، لتوحيد الجهود ضد القوى التي يصفها البيان بالعدوانية.
تأتي هذه التصريحات خلال وقت كان التوتر الدولي على أشده، إذ كانت التحركات العسكرية الأميركية والبريطانية والعربية تحاصر العراق بصورة مباشرة، مع تهديد واضح باستخدام القوة العسكرية الكبرى لإخضاع النظام العراقي. ولاحظت البعثات الدبلوماسية الغربية في تونس وباريس أن البيان الصادر عن وكالة “وفا” يتسم بالغموض، وهو ما أثار المخاوف في شأن طبيعة الإجراءات التي قد تتخذها المنظمة، خصوصاً في ما يتعلق بالارتباط بأية أعمال عنف محتملة ضد أهداف التحالف، سواء من قبل العراقيين أو من قبل متعاطفين آخرين.
وأوصت وزارة الخارجية البريطانية بضرورة التواصل العاجل مع ممثل المنظمة أو أي متحدث رسمي، لتوضيح موقف المنظمة بصورة مباشرة وواضحة، ويفضل أن يكون الإعلان من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات شخصياً لتجنب أي تفسير خاطئ للبيانات الرسمية. واقترح قيام السفارتين البريطانيتين لدى الرياض والقاهرة باتخاذ إجراءات موازية للتواصل مع جهات الاتصال المحلية للمنظمة، بما يضمن نقل الرسائل بصورة مباشرة وفعالة.
تحركات داخلية وخلافات قيادية
بين الـ17 والـ30 من يناير 1991، كشفت الوثائق البريطانية عن مستوى عال من التوتر والارتباك داخل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. فقد لاحظ المسؤول الدبلوماسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي وجود خلافات حادة بين ياسر عرفات وأبو إياد في شأن دعم صدام حسين. ووفقاً لتقارير وزارة الخارجية البريطانية، كان المزاج العام بين قادة المنظمة مشوشاً وغاضباً، إذ أدركوا أن الحرب وشيكة بعدما كانوا مقتنعين خلال اليوم السابق بأن العراق سيحقق نصراً دبلوماسياً دون مواجهة عسكرية مباشرة.
وفي هذا السياق، صدر بيان وُصف بـ”العدائي” من منظمة التحرير يدعو إلى معارضة التحالف على جميع المستويات، مما أثار المخاوف لدى البعثات الغربية من أن بعض الأفراد داخل المنظمة قد يفسرون هذه التصريحات كإشارة للبدء في “أعمال إرهابية”، مؤيدة للعراق. وقد وصف أبو إياد الذي اغتيل لاحقاً في تونس موقف عرفات بأنه يميل إلى دعم العراق، مما أثار خلافات داخلية كبيرة وبخاصة بين القوى المعتدلة والمتشددة داخل المنظمة.
أثناء هذه الفترة، أظهرت الوثائق البريطانية أن توقف الرحلات الجوية إلى عمان أدى إلى إقامة مراسم جنائزية قرب تونس، حضرها عدد من زملاء بعثة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعكس تأثير الأحداث الأمنية على الروتين الدبلوماسي للمنظمة. وأوصى المسؤولون الغربيون بعدم الاقتراب من المنظمة خلال الوقت الحالي، والاكتفاء بالحفاظ على مسافة دبلوماسية موقتة لتجنب أي تصعيد غير محسوب.
تقييمات بريطانية وأميركية
وفق ما كشفته الوثائق البريطانية، ففي الفترة ما بين الـ17 والـ18 من يناير، أبدت بعثة الولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي “الناتو” ووزارة الخارجية البريطانية قلقاً بالغاً، في شأن احتمالية استخدام المنظمة الفلسطينية شبكتها الدبلوماسية والبنية السرية لتنفيذ هجمات عنيفة لمصلحة العراق. وأفادت التقارير بأن قيادة المنظمة أصدرت دعوات للعرب والمسلمين للتصدي لـ”الاعتداء الغادر من الأميركيين والصهاينة والأوروبيين”، وأن بعض عناصر حركة “فتح” في لبنان دعوا إلى مهاجمة المصالح الأميركية والبريطانية حول العالم.
فمن جانبها أكدت البعثة الأميركية أن أي تعاون بين المنظمة والعراق في جمع المعلومات الاستخباراتية أو توفير غطاء لوكلاء عراقيين سيزيد من حجم الخطر بصورة كبيرة، مما يستدعي اتخاذ تدابير عاجلة للحد من أية عمليات عنيفة محتملة قبل تنفيذها. وأوصت الوثائق بضرورة إرسال رسالة واضحة للمنظمة توضح العواقب السلبية الجسيمة لأي لجوء إلى عمليات عدائية نيابة عن العراق، مع تأكيد التعاون المستمر بين الجهات الغربية لضمان منع أية أعمال عدائية.
وأوضحت التقارير أن موقف ياسر عرفات كان سياسياً بحتاً منذ بداية الأعمال العدائية، وأنه سعى للتواصل مع سفراء الاتحاد السوفياتي وبعض السفراء الأوروبيين، إضافة إلى قادة عرب محسوبين عليه، بحثاً عن وسيلة لإنهاء النزاع بطريقة سلمية، إلا أن الضرر السياسي الناتج من الانطباع العام لتصريحات المنظمة كان واضحاً، وأدى إلى تكثيف جهود الدبلوماسيين الغربيين لتوضيح الموقف قبل حدوث أي تصعيد.
تصحيح دبلوماسي عبر رسائل رسمية
خلال الـ18 من يناير (كانون الثاني) قام ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى لندن بزيارة السفير البريطاني لدى السعودية السير ديفيد غور بوث لمناقشة كيفية معالجة النزاعات الإقليمية بعد انتهاء الأزمة الحالية. وأوضح غور بوث أن الحكومة البريطانية كانت بدأت بالفعل التخطيط لما بعد الأزمة، مستشهداً بالبيان الصادر عن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في باريس، ومقال نشر في صحيفة “التايمز” يؤكد استمرار اهتمام الدول الأوروبية بالقضية الفلسطينية بعد تحرير الكويت.
وقد أُكد خلال هذه اللقاءات أن أي ارتباط لمنظمة التحرير الفلسطينية بأعمال “إرهابية” خلال الأزمة سيكون كارثياً على موقفها الدولي، وأنه من الضروري إعادة بناء الثقة من خلال التعاون مع الفاعلين الرئيسين مثل مصر والأردن وفلسطينيي الضفة الغربية. وأوضح ممثل المنظمة أن البيان الصادر عن وكالة “وفا” تُرجم بطريقة خاطئة، مما أدى إلى تفاقم سوء الفهم بين القيادة الفلسطينية والجهات الدولية.








