منبر الكلمة

مات “الإبن الضال”

 

طارق اسماعيل – كاتب لبناني

زياد الرحباني، الذي عايش حقبتي اليمين واليسار، والممانعة وضدّها، وتخفف من الحقبتين من دون أن يبرأ منهما، هو زياد الأكثر مقاربة واقعية للبنان، الذي يدعو كلّ شيء فيه إلى السخرية، وقد أدخلها “الرحباني الضال” إلى ذاكرتنا كأهم مقوّمات الوعي.

مات زياد الرحباني.

الخبر بحد ذاته يأتي كنعي لعبقريات كثيرة تجمعت في شخصية فنان ظلّ حتى رمقه الأخير علامة فارقة في الفن والسياسة.

وأخال زياد الرحباني يحوّل لحظة موته إلى سخرية من القدر، وإلا فلن يكون زياد الرحباني… سخرية يقتضي راهنها أن تصيب الحالة التي هو فيها الآن مسبوقة بصفة “الراحل”.

وأعتقد أيضاً – وأيضاً – أن أحداثاً كثيرة كانت تنتظر أن يُمهِرها زياد بشيء من سحر سخريته، فأحداث لبنان من دون سخرية زياد ينتفي عنها ما يمكن أن يعمقها في الذاكرة، تلك الذاكرة التي ما انفك تداولها للماضي يتبدّى مؤسِّساً لاستعادتها في وقائع متناسلة ومتشابهة مستقبلاً.

والحال، نادرون هم الذين لم يمنحوا زياد الرحباني رثاءً لم يطلبه. وهؤلاء هم المقيمون على الضفة الأخرى من السياسة التي انغمس فيها زياد باكراً، وظلّ وفياً ليساريّته التي شاخت في حياته، وبقي هو أبرز “أيقوناتها” التي منحت اليسار اللبناني تذكرة عبور إلى وجدان اللبنانيين.

صعّب زياد بهذا المعنى إقامة الخصومة السياسية والنفسية معه، كتجسيد لاستثنائية فنية ظلت تشكّل سدّاً لذرائع كثيرة افترضت بالضرورة تلك الخصومة.
كان يكفي أن يكون زياد شيوعياً ليصير خصماً واقعياً لليمين اللبناني، ويكفي أيضاً أن يتحول إلى يساري ممانع ليصنع قطيعة مع خصوم الممانعة.

لكن زياد، ظلّ في الحالتين استعصاءً بددته تلك السخرية التي تكثفت حتى في خصومه المفترضين، لكنها لم تُعفِ منها أيضاً لا اليسار، ولا الممانعة.

“فيلم أميركي طويل” و”شي فاشل”، المسرحيتان الأكثر انغماساً في السياسة لدى زياد، هما دلالتان كثيفتان على نظرة واقعية، وغير مغلقة، للواقع اللبناني.
شرّحت المسرحيتان الملل والطوائف اللبنانية بما يخدم الرؤية السياسية لكلٍّ منها، ويفك – بالضرورة – استعصاء زياد على وجدان لبناني متنافر.

إذ تصلح الحوارية الشهيرة لـ”نور” مع شخصية “أبو الزلف”، كخاتمة لـ”شي فاشل”، كمؤشر إلى خروج زياد من تهمة “الابن الضال” في وجدان مسيحي ساحق، يعتبر “الرحابنة” و”فيروز” إرثاً صنعه خيال المارونية السياسية عن لبنان، بينما تَبدّى زياد فيه كخارج عن سياقه السياسي والبيولوجي.


مات زياد الرحباني.الخبر بحد ذاته يأتي كنعي لعبقريات كثيرة تجمعت في شخصية فنان ظلّ حتى رمقه الأخير علامة فارقة في الفن والسياسة.

حضور زياد في زمن اليمين واليسار اللبنانيين، أتى مصحوباً بكثافة فنية، مسرحاً وتلحيناً، وساهمت هذه الكثافة في التواطؤ على ذاكرة اليمينيين، وفي التخفف من “اليسارية” التي امتشقها زياد باكراً.

هذا ما كانه زياد قبل أن يُصاب اللبنانيون بمتلازمتي الممانعة والضد ممانعة.
الأخيرتان أحالتا زياد إلى مكان أكثر صعوبة من سابقة اليمين واليسار.
فزياد صار مشطوراً في الوجدان اللبناني الذي كرّسه كأيقونة، وقد اتخذ موقعاً ممانعاً متقدّماً.

انقطع زياد عن الفن، وارتمى في السياسة، كاتباً في صحيفة “الأخبار”، وعابراً بقلمه الساخر على مسار دموي بدأ مع رفيق الحريري، ولم يتوانَ زياد نفسه عن السخرية السياسية من “شخصيات” لم تلبث أن دفعت حياتها على مذبح إحدى المتلازمتين.

كان زياد الرحباني في تلك الحقبة ثقلاً مضاعفاً على وجدان لبناني عارم:
وجدان يكابد في الممانعة من موقع الوضوح، ويكابد في زياد من موقع ملتبس، ومرهون في التباسه لإرث الرحابنة ومساهمته في صنع ذاكرة سياسية، يسارية غالباً، وكان تأثيره فيها يوازي ما صنعه منظّرو اليسار ومثقّفوه.

كان على وجدان “الزياديين”، وفي حيز زمني بدا فيه زياد يأتي من موقع طردي، ومحض سياسي، أن يلجأ إلى فن الرجل.

كان هذا التواطؤ أسهل الممكن للتخفف من لحظة تُحيل زياد إلى موقع خصومة ناجزة، وإن بدا كتواطؤ نجا منه لبنانيون، وصار معه زياد الرحباني خارج ذاكرتهم.

زياد الرحباني الذي مات اليوم، لم يكن مجرد ساخر تموت سخريته في لحظتها، وهي لن تموت بموته.

فزياد الرحباني، الذي عايش حقبتي اليمين واليسار، والممانعة وضدّها، وتخفف من الحقبتين من دون أن يبرأ منهما، هو زياد الأكثر مقاربة واقعية للبنان، الذي يدعو كلّ شيء فيه إلى السخرية، وقد أدخلها “الرحباني الضال” إلى ذاكرتنا كأهم مقوّمات الوعي.

يبقى، والحال هذه، أن السخرية الواقعية سيطلبها كثيرون، وطلبها كثيرون، لكنها بموت زياد ستبقى تلوّح بكفّيها لساخر واحد وتقول للموت: “سلّملي عليه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى