
عمان – لم يعد المنتخب الوطني الأردني لكرة القدم مجرد فريق يسعى للفوز في مباراة، ولا مجرد قصة رياضية تُروى في مواسم الحماس.
نحن اليوم أمام لحظة وطنية نادرة، تختبر قدرة الدولة على تحويل الإنجاز إلى مشروع، والطموح إلى إستراتيجية، والموهبة إلى منظومة.
اقتراب المنتخب من المشاركة في كأس العالم لا يفتح بابا رياضيا فحسب، بل يفتح نافذة سيادية على العالم، حيث تتقاطع الرياضة مع الذكاء الاصطناعي، وتتحول كرة القدم من لعبة جماهيرية إلى أداة قوة ناعمة، ومن حدث عابر إلى هوية وطنية متحركة.
في عصر تُدار فيه البطولات بالأرقام، وتُصنع فيه الفروقات بالخوارزميات، لم تعد المنافسة تُحسم فقط في التسعين دقيقة، بل في مراكز تحليل البيانات، وفي غرف القرار، وفي قدرة الدول على قراءة اللحظة واستثمارها. هنا بالضبط يقف الأردن اليوم: أمام فرصة تاريخية ليقول إن حضوره العالمي لا يُقاس فقط بالجغرافيا أو الموارد، بل بالذكاء، والتنظيم، والقدرة على تحويل الرياضة إلى رسالة دولة بلغة القرن الحادي والعشرين. هذه ليست قصة منتخب فقط، بل اختبار لرؤية وطن.
كرة القدم الحديثة لم تعد تُدار بالخبرة الميدانية وحدها. تشير التقديرات الرياضية العالمية إلى أن ما يزيد على 70 % من القرارات الفنية في المنتخبات المتقدمة باتت مدعومة بتحليل البيانات، وأن إدخال أنظمة الذكاء الاصطناعي أسهم في خفض معدلات الإصابات البدنية بنسبة تراوح بين 20 % و30 % في بعض البطولات الكبرى. هذه الأرقام لا تعكس تطورا تقنيا فحسب، بل تحولا عميقا في فلسفة الإدارة الرياضية.
بالنسبة للمنتخب الأردني، فإن هذه المرحلة تمثل فرصة استراتيجية للانتقال من “الإنجاز بالجهد” إلى “الإنجاز بالمنظومة”. استخدام تقنيات تحليل الأداء، وتتبع الحركة، وقراءة الأحمال البدنية، يمكن أن يمنح الجهاز الفني رؤية دقيقة لتفاصيل لا تُلتقط بالعين المجردة. كما أن تحليل أنماط لعب الخصوم، المدعوم بالذكاء الاصطناعي، يرفع من كفاءة الاستعداد للمباريات الحاسمة، ويقلل من هامش المفاجآت، خاصة في بطولات عالمية تُحسم فيها النتائج بالتفاصيل الصغيرة.
غير أن أهمية الذكاء الاصطناعي لا تتوقف عند حدود الملعب. التحول الرقمي في القطاع الرياضي يفتح الباب أمام اقتصاد رياضي متكامل. تشير تقارير اقتصادية إلى أن حجم الاقتصاد الرياضي العالمي تجاوز 500 مليار دولار سنويا، فيما تُعد بطولات كأس العالم من أكثر الأحداث تأثيرا من حيث الظهور الإعلامي، والعوائد غير المباشرة، وتعزيز الصورة الذهنية للدول المشاركة. المشاركة في كأس العالم، بهذا المعنى، ليست تكلفة، بل استثمار وطني طويل الأمد.
المنتخب الوطني في هذه اللحظة ليس مجرد فريق، بل منصة ترويج عالمية للأردن. ملايين المشاهدات، وتغطيات إعلامية دولية، ومحتوى رقمي متداول عبر مختلف المنصات، يمكن أن تتحول إلى حملة تعريف ذكية بالدولة، بثقافتها، واستقرارها، وطموحها. قميص المنتخب، اسمه، ورمزيته، كلها أدوات قوة ناعمة إذا ما أُديرت ضمن رؤية واضحة، تربط الإنجاز الرياضي بسردية وطنية متماسكة.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال البعد السياسي للذكاء الاصطناعي بوصفه أداة قوة سيادية غير تقليدية، تُستخدم دفاعيا وهجوميا على مستوى السردية لا الصدام. فالدول باتت توظف الذكاء الاصطناعي في تحليل المزاج العام العالمي، ورصد الخطاب الإعلامي، وإدارة السمعة الدولية، والرد الاستباقي على حملات التشويه أو التضليل. حضور المنتخب الأردني في بطولة بحجم كأس العالم يتيح للأردن ممارسة “الهجوم السردي الذكي” عبر المحتوى، لا المواجهة، وعبر الرسائل الرقمية الموجهة، لا الخطاب التقليدي، بما يحول الحدث الرياضي إلى مساحة تأثير سياسي ناعم، يعزز المصالح الوطنية، ويحمي الصورة السيادية للدولة، ويُرسخ حضورها الدولي بأدوات ذكية منخفضة الكلفة عالية الأثر.
لكن تعظيم هذا الأثر يتطلب إطارا تشريعيا وتنظيميا مواكبا. البيانات الرياضية اليوم تُعد أصلا إستراتيجيا، ما يستدعي تشريعات تحمي خصوصية اللاعبين، وتنظم ملكية البيانات، وتحدد آليات استثمارها دون الإخلال بالعدالة أو النزاهة. كما أن إدارة الحقوق الرقمية، والرعاية، والصورة الذهنية للمنتخب، تحتاج إلى حوكمة مرنة تسمح بالابتكار، وتفتح المجال أمام شراكات حقيقية مع القطاع الخاص وشركات التكنولوجيا.
التجارب الدولية تشير إلى أن كل استثمار مدروس في البنية الرقمية الرياضية ينعكس مباشرة على حجم الرعاية، والتسويق، والعائد الإعلامي خلال البطولات الكبرى. إنشاء منصات رقمية خاصة بالمنتخب، وتحليل تفاعل الجماهير، واستخدام الذكاء الاصطناعي في المحتوى الإعلامي، يعزز العلاقة بين الفريق وجمهوره، ويحوّل المشجع من متلقٍ إلى جزء فاعل في المنظومة الوطنية.
الدعم المطلوب للمنتخب في هذه المرحلة لا يجب أن يكون دعما موسميا أو انفعاليا مرتبطا بنتيجة مباراة. نحن بحاجة إلى دعم مؤسسي طويل الأمد، يقوم على رؤية واضحة لما بعد كأس العالم. رؤية تعتبر المنتخب مشروع دولة، لا ملفا رياضيا فقط. مشروع يربط بين الرياضة، والتعليم، والتقنية، والاقتصاد الإبداعي، ويستثمر في الأكاديميات، واكتشاف المواهب، وبناء قواعد بيانات وطنية للرياضيين.
الأهم من ذلك، أن ما يُبنى اليوم للمنتخب يمكن أن يتحول إلى نموذج يُحتذى به في باقي القطاعات. منظومات التحليل، والتشريعات، والشراكات، يمكن تعميمها على رياضات أخرى، وعلى برامج الشباب، ما يخلق اقتصادا رياضيا رقميا حقيقيا، ويعزز مكانة الأردن كدولة تستثمر في الإنسان والتقنية معا.
نحن أمام لحظة نادرة تتقاطع فيها الإرادة الشعبية مع الفرصة التقنية. المنتخب الأردني لم يصل إلى هذه المرحلة بالصدفة، ولن يحافظ على مكانته بالصدفة أيضا. الطريق إلى كأس العالم، وما بعدها، يمر عبر عقل رقمي، وتشريع ذكي، واستثمار واعٍ للهوية الوطنية.
الرهان اليوم ليس فقط على نتيجة مباراة، بل على كيفية إدارة اللحظة. المنتخب هو “كرت رابح” حقيقي للأردن، وإذا ما أُحسن استثماره، يمكن أن يفتح أبوابا تتجاوز الرياضة إلى السياسة الناعمة، والاقتصاد، وصورة الدولة عالميا. وعندما تُدار كرة القدم بعقل القرن الحادي والعشرين، تصبح أكثر من لعبة… تصبح رسالة وطن.
*مطور للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي








