منبر الكلمة

المنتج الرقمي الأردني.. من استثمار العقول إلى صناعة قيمة اقتصادية عابرة للحدود

عمان – في زمن لم تعد فيه الثروات تقاس بما يستخرج من باطن الأرض بقدر ما تقاس بما يبتكر في العقول، يبرز المنتج الرقمي الأردني كأحد أكثر التحولات الاقتصادية عمقًا وهدوءًا في المنطقة العربية. فهذا المنتج لم يكن وليد وفرة مالية أو قاعدة صناعية تقليدية، بل نتاج استثمار طويل الأمد في رأس المال البشري، والمعرفة التقنية، والقدرة على تحويل التحديات الهيكلية إلى فرص رقمية قابلة للنمو والتوسع. ومع تسارع التحول الرقمي عالميا، وجد الأردن نفسه أمام نافذة استراتيجية لإعادة تعريف موقعه الاقتصادي، ليس كمستهلك للتكنولوجيا، بل كمنتج ومصدر لها ضمن منظومة تنافسية إقليمية وعالمية.

تشكل المنتج الرقمي الأردني على أساس مدخلات واضحة ومتداخلة، يأتي في مقدمتها العنصر البشري. وتشير تقديرات سوق العمل، إلى أن ما بين 60 إلى 65 بالمائة من تكلفة تطوير أي منتج رقمي محلي، تذهب مباشرة إلى الكفاءات البشرية من مهندسي ومطوري برمجيات ومصممي واجهات ومحللي نظم وبيانات. هذا التركيب جعل من التعليم التقني والتدريب المستمر عنصرين حاسمين في استدامة القطاع، خاصة أن متوسط عمر المهارة الرقمية الفعالة لا يتجاوز أربع إلى خمس سنوات في بعض التخصصات. وإلى جانب ذلك، لعبت البنية التحتية الرقمية دورًا متقدمًا في تقليص كلفة التشغيل، حيث ساهم انتشار الإنترنت واسع النطاق والخدمات السحابية، في خفض النفقات التشغيلية الأولية بنسبة تراوحت بين 15 و20 بالمائة، مقارنة بمرحلة ما قبل الاعتماد الواسع على الحوسبة السحابية.

كما ساهم الإطار التنظيمي والبيئة الداعمة للأعمال في تعزيز هذه المدخلات، سواء من خلال تسهيلات تسجيل الشركات الرقمية، أو برامج دعم ريادة الأعمال والابتكار، أو الحوافز الضريبية المرتبطة بقطاع تكنولوجيا المعلومات. ويضاف إلى ذلك، تطور منظومة التمويل التي باتت تجمع بين استثمارات رأس المال المخاطر، والمنح الدولية، وبرامج التسريع، ما أتاح للشركات الناشئة تجاوز مراحل الاختبار الأولي والدخول إلى الأسواق خلال فترات زمنية أقصر نسبيًا، إذ يتراوح متوسط زمن تطوير منتج رقمي متوسط التعقيد في الأردن، بين ستة أشهر وثمانية عشر شهرا.

من المدخلات إلى القيمة المضافة

على مستوى المخرجات، أفرزت هذه المدخلات منتجات رقمية متنوعة تشمل البرمجيات كخدمة، ومنصات التعليم الإلكتروني، وحلول التجارة الإلكترونية، والتقنيات الصحية الرقمية، وتطبيقات المدن الذكية، وحلول إنترنت الأشياء. وتكمن قوة هذه المخرجات في طبيعتها القابلة للتكرار والتوسع، حيث إن النسخة الواحدة من المنتج يمكن أن تخدم آلاف المستخدمين دون زيادة متناسبة في التكاليف، ما يرفع هوامش الربحية التشغيلية التي قد تصل في بعض النماذج، إلى ما يقارب 30 بالمائة عند الإدارة الكفؤة.

وبرزت خلال السنوات الأخيرة نماذج لمنتجات رقمية أردنية متخصصة، طورت في الأصل لتلبية احتياجات محلية أو إقليمية محددة، ثم جرى تكييفها لاحقًا لتخدم شركات ومؤسسات في أسواق خارجية، ولا سيما في مجالات إدارة البيانات، والحلول السحابية، والخدمات التقنية المساندة للأعمال. هذا النمط من التطوير القائم على “حل المشكلة أولًا”، منح المنتج الأردني مرونة تنافسية وقدرة على التخصيص، وهي ميزة مهمة في الأسواق الدولية متوسطة الحجم.

على الصعيد العربي، وجد المنتج الرقمي الأردني بيئة طبيعية للانتشار بفضل التقارب الثقافي واللغوي، إضافة إلى تشابه التحديات الاقتصادية والخدمية، ما سهل تصدير الحلول الرقمية الجاهزة أو القابلة للتخصيص. وتشير مؤشرات نمو القطاع، إلى أن صادرات الخدمات الرقمية الأردنية شهدت معدلات نمو سنوية متوسطة تراوحت بين 10 و15 بالمائة في السنوات الأخيرة ضمن الأسواق الإقليمية، وهو معدل يعكس قدرة تنافسية مستقرة دون مبالغة. أما عالميًا، فقد استطاعت بعض المنتجات الأردنية اختراق أسواق أوروبية وآسيوية، خاصة في مجالات البرمجيات المتخصصة والخدمات التقنية الداعمة للشركات، مستفيدة من جودة الكفاءات وانخفاض كلفة التطوير مقارنة بأسواق متقدمة.

وعند المقارنة بتجارب دول صغيرة نسبيًا، نجحت في بناء اقتصاد رقمي تصديري، مثل إستونيا أو بعض دول شرق أوروبا، يتضح أن النموذج الأردني يتقاطع معها في الاعتماد على رأس المال البشري والمرونة التنظيمية، مع اختلاف في حجم السوق والدعم الحكومي المباشر. هذه المقارنة تضع التجربة الأردنية ضمن مسار عالمي قابل للتطوير، لا كحالة استثنائية، بل كنموذج قابل للتوسع إذا ما توفرت له أدوات النمو المناسبة.

الأثر الاقتصادي للمنتج الرقمي لا يقتصر على عوائد الشركات فحسب، بل يمتد إلى الاقتصاد المحلي ككل عبر ما يعرف بالأثر المضاعف. فكل دينار يستثمر في قطاع المنتجات الرقمية يمكن أن يولد ما بين 1.8 إلى 2.5 دينار في الاقتصاد خلال فترة تتراوح بين سنتين وثلاث سنوات، نتيجة الإنفاق على الأجور، والخدمات المساندة، والتسويق، والبنية التقنية، إضافة إلى خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة. وتشير تقديرات غير رسمية، إلى أن قطاع المنتجات الرقمية ساهم في خلق آلاف الوظائف النوعية ذات الأجور الأعلى من المتوسط الوطني، ما انعكس إيجابًا على القوة الشرائية ومستوى المعيشة لدى شريحة واسعة من الشباب.

كما ساهم المنتج الرقمي في تعزيز الشمول المالي والاقتصادي عبر إدخال شرائح كانت خارج المنظومة التقليدية إلى سوق الخدمات الرقمية، سواء من خلال حلول الدفع الإلكتروني، أو منصات العمل الحر، أو الخدمات التعليمية والصحية عن بُعد. وفي السياق الحكومي، أظهرت بعض الحلول الرقمية المطبقة في الخدمات العامة، قدرة على خفض الكلفة التشغيلية بنسبة تراوحت بين 8 و12 بالمائة في قطاعات محددة، مع تحسين مستوى الخدمة ورفع كفاءة الأداء.

ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، لا يخلو المسار من تحديات حقيقية، أبرزها محدودية التمويل في مراحل النمو المتقدمة، والحاجة إلى خبرات تسويق دولية قادرة على بناء علامات تجارية رقمية تنافس عالميًا، إضافة إلى متطلبات الامتثال للمعايير الدولية المتعلقة بحماية البيانات والأمن السيبراني. كما أن شدة المنافسة العالمية تفرض على المنتج الرقمي الأردني الاستثمار المستمر في البحث والتطوير والملكية الفكرية، للحفاظ على التمايز وعدم الوقوع في فخ الحلول المتشابهة.
إن تعظيم أثر المنتج الرقمي الأردني يتطلب رؤية تكاملية تبدأ من التعليم والتأهيل، مرورًا بآليات تمويل مرنة، وصولًا إلى استراتيجيات تصدير رقمية واضحة تستفيد من الاتفاقيات التجارية والشراكات الإقليمية والدولية. كما أن بناء ثقة الأسواق الخارجية يتطلب أطرًا تنظيمية مستقرة وواضحة تعزز المصداقية وتخفض كلفة المخاطر.

وفي الخلاصة، لم يعد المنتج الرقمي الأردني خيارًا تنمويًا ثانويًا، بل أصبح ركيزة استراتيجية لإعادة تشكيل الاقتصاد الوطني على أسس أكثر ذكاءً واستدامة. فالعائد الحقيقي لهذا المنتج لا يقاس فقط بحجم الإيرادات أو نسب النمو، بل بقدرته على إدماج العقول المحلية في سلاسل قيمة عالمية، وخلق وظائف نوعية، وتعزيز مكانة الأردن كمركز رقمي إقليمي صاعد. إنه استثمار في المستقبل القريب قبل البعيد، ورهان واقعي على اقتصاد يقوده الابتكار لا الموارد التقليدية، ويصنع أثره بهدوء وثبات واحترافية عالية.

* مطورة للمدن الذكية والاقتصاد الرقمي

alghad

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى