منبر الكلمة

طوباس تحت بنادق الاحتلال… والأردن: حماية الحقّ لا تحتمل الرمادية

 

عدنان نصّار

في الضفة الغربية، لا يتوقف الزمن عند ساعةٍ أو يوم، بل عند لحظة اقتحامٍ تعيد تعريف الحياة ومعناها. الاحتلال الإسرائيلي هناك لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يواصل تأسيس واقعٍ تُصادر فيه الحقول، وتُحاصر القرى بالأسلاك والحواجز، ويُوزع الخوف بدل الماء والهواء. أما في طوباس تحديدًا، فإن المشهد أكثر وضوحًا وأكثر إيلامًا؛ إذ تتحول المدينة التي تتنشق عبق الوادي وخصب السهل إلى اختبارٍ يومي للبقاء تحت وطأة ممارسات احتلالية تتعدد أشكالها وتتماهى أهدافها.

من اقتحاماتٍ ليلية تُنفَّذ بشراسة قوات جيش الدفاع الإحتلالي، إلى حواجز طيّارة تُغلق الطرق الرابطة بين التجمعات السكانية، وصولًا إلى حملات اعتقال عشوائية تطال البشر، وتجريف متكرر يُصيب الأرض في روحها، تُدان كل هذه الممارسات باعتبارها سياسة ممنهجة تُعمّق من عزلة الفلسطينيين وتُضعف قدرتهم على إدارة تفاصيل حياتهم اليومية. فالحاجز ليس قطعة إسمنتٍ تُشطر الطريق فحسب، بل جدارٌ رمزيٌ يُقصي الأمل، والاقتحام ليس عملية أمنية، بل رسالة قوة تُعيد قولبة العلاقة بين المواطن الفلسطيني والمكان الذي يُنتمي إليه، بينما يراقب العالمُ هذا التحوّل بصمتٍ لا يُغفر.

في طوباس، تتعدى عمليات التضييق المستوى العسكري إلى ضربٍ اقتصاديٍ مباشر. فجرافات الاحتلال التي تجرف محيط الأغوار وتقتلع المزروعات تُحيل الفلاح إلى مراقبٍ لأرضه وهي تُمزَّق، بعد أن كانت مصدر عيشه وذاكرة أبيه وجده. شجرة الزيتون التي تُقطَع ليست شجرةً فحسب، بل شاهدًا على رواية الصمود الممتدة في وجدان المكان. وعندما تُسَوَّى الأرضُ بما فوقها، تُسَوَّى معها فرص العمل والاستثمار، ويُدفَع الشباب إلى حافة الضياع المُرّ، بين الهجرة أو الاستسلام للاحتلال الذي يعمل على خلق واقعٍ ديموغرافيٍ يخدم روايته وحده، لا رواية التاريخ ولا رواية البشر.

وإزاء هذا التغوّل، يبقى الأردن حاضرًا، لا كجارٍ يرى المشهد من بعيد، بل كصوتٍ سياسيٍ وأخلاقي يتقدّم دائمًا للدفاع عن الحق الفلسطيني. فالموقف الأردني من قضية الاحتلال لم يكن يومًا تكتيكيًا أو موسميًا، بل موقفًا تاريخيًا تأسس منذ عقود على قاعدة الثوابت الراسخة التي تتبناها الدولة الأردنية، وفي مقدمتها أن فلسطين أرض عربية محتلة، وأن سياسات التوسع والاستيطان ومحاربة الوجود الفلسطيني هي انتهاكٌ صارخٌ للقانون الدولي والشرعية الإنسانية والأخلاقية.

الأردن الرسمي، عبر وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية، لم يكتفِ بالإدانة الكلامية، بل يواصل حراكه الدبلوماسي في أروقة الأمم المتحدة والاتحادات البرلمانية والمنابر العالمية، مُذكّرًا بأن ما يجري في الضفة وطوباس ليس مجرد أحداث أمنية معزولة، بل مشروعُ تغييرٍ جغرافيٍ وسكانيٍ يستهدف اقتلاع الإنسان من أرضه لإعادة زرع مستوطن فوق خرائطه وذكرياته. رسائل الأردن في هذا السياق كانت دائمًا واضحة: لا سلامَ بلا عدل، ولا استقرارَ بلا إعادة الحق إلى أهله، ولا قيمة للتفاوض بينما الحقولُ تُمحى والأعمارُ تُصادَر بالاعتقال الإداري الذي يرفض الأردنُ تحوّله إلى أداة قمعٍ دائمة.

وفي بعدٍ آخر، لا يقل أهمية، يبرز موقف الأردن الشعبي الذي يتنفس القضية لأنها جزءٌ من هويته الجمعية. الأحزاب والفعاليات النقابية والحراكات الشبابية، إضافة إلى وقوف مؤسساتٍ مجتمع مدنيٍ أردنية تعنى بالإغاثة وحقوق الإنسان، لا تتوقف عن إعلان التضامن وتنظيم الحملات الإعلامية والإغاثية لإبقاء الضوء مسلّطًا على معاناة أهل الضفة، وفي القلب منها طوباس، هذه المدينة التي تخوض معركة الوجود بلا ضجيجٍ إعلامي كافٍ، لكنها معركة كاملة التفاصيل والأوجاع.

من هنا، تأتي أهمية أن نكتب عن طوباس اليوم، ليس بوصفها مدينةً فلسطينيةً تتألم وحدها، بل بوصفها مرآةً لمرحلة تاريخيةٍ يعيشها الأردنيون والفلسطينيون معًا، على طرفي الحدود وداخل ذات السؤال: كيف نحمي الإنسان حين يتغوّل الاحتلال على الجغرافيا والهوية والعيش؟ وكيف نبقى أوفياء لقضيةٍ تُصادِرها الحواجز وتُجرِّفها الجرافات لكن لا تُجرِّفها الذاكرة؟

إن ما يجري في الضفة الغربية وطوباس، بكل ما فيه من اعتداءٍ على البشر والحجر والشجر، يضع المنطقة كلها أمام مراجعة تاريخية وأخلاقية. والأردن، في موقفه الثابت، لا ينفصل عن رواية الأرض أو عن صرخة الناس؛ بل يُعيد تشكيل هذه الصرخة دوليًا بلغة الدبلوماسية، ويُعزّزها محليًا بلغة الضمير الجمعي الذي يُصرّ على أن فلسطين ليست عنوانَ قضية فقط، بل عنوانُ كرامةٍ جماعية لا تقبل التأجيل ولا التنازل.

وبينما تسعى إسرائيل إلى تكريس أمرٍ واقعٍ بالقوة، فإن الأردن يواصل القول والفعل: إن الاحتلال إلى زوال، وإن الأرضَ قد تُجرَف، لكنها لا تُستَبدَل، وإن الإنسان قد يُحاصَر، لكنه لا يُنتزَع من حقّه مهما طال الزمن. تلك هي المعادلة الأردنية الراسخة: الشراكة في الوجع، والشراكة في الدفاع، والشراكة في المصير… حتى يأتي صبحُ العدالة الذي لا بدّ أن يجيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى