
آفاق نيوز – منذ ما قبل سقوط نظام الأسد، كانت السويداء من أوائل المحافظات التي دعمت التغيير، وخرج أبناؤها إلى “ساحة الكرامة” الشهيرة مطالبين بإسقاط النظام على مدى عامين. لكن بعد سقوط النظام والاحتفال بالخروج من حقبة دموية امتدت لأكثر من نصف قرن، سرعان ما انقلب المشهد.
التوترات التي بدأت مع وصول السلطة الانتقالية ومقاربتها ملفات عدة، خصوصاً ما يُعرف بـ “ملف الأقليات”، وبعد مجازر الساحل ضد العلويين، تصاعدت معها هجمات شخصيات وجهات محسوبة على السلطة الجديدة، ترافقها حملة تحريض مكثفة من إعلام النظام ضد دروز السويداء.
يمكن اختزال الصدام برغبة السلطة الجديدة في استعادة هيبتها على المنطقة، في مقابل قلق وجودي لدى الجماعة، بخاصة بعد مجازر الساحل وتشدّد بعض الجهات التابعة للسلطة.
هنا يبرز العامل الإسرائيلي، فمن المعروف أن الدروز كمجموعة تنتشر بين سوريا ولبنان وإسرائيل، ويرتبطون بعلاقات قربى وصلات وثيقة، وهي نقطة استثمرت فيها إسرائيل.
حملات دمشق ترافقها اتهامات بالخيانة والعمالة لأبناء السويداء مع تصويرهم كأدوات في مشروع خارجي. كما تم التركيز على دور الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للطائفة، الذي صرّح علناً بخياره التقرب من إسرائيل، بوصف ذلك حماية لأبناء الطائفة من وجهة نظره.
وقد جعلت حملات السلطة من إسقاط الهجري هدفاً مشروعاً تم عبره وصم منطقة بأكملها تقريباً بتهمة “العمالة”..
فكيف تحولت المحافظة إلى هدف “أخلاقي”؟ وكيف بلغ الخطاب السوري هذه الدرجة من الانقسام؟

الوصول إلى لحظة الانفجار
الانفتاح المحدود الذي أبدته السويداء تجاه حكومة دمشق بعد تولّيها الحكم كان حذراً، بخاصة مع تصاعد الخوف من الفصائل المتشددة التي انخرط بعضها في وزارة الدفاع السورية. سعى الشيخ الهجري، ومعه أبناء السويداء، إلى تفاهمات ومطالبات بتمثيل الأقليات، وهي مطالب تشاركها شرائح واسعة من السوريين.
ازدادت مخاوف السويداء وعموم الأقليات مع وقوع أولى مجازر الساحل، ما دفع فصائل المدينة إلى التمسك بسلاحها وبشبه سلطتها الذاتية.
في أيار/ مايو الماضي، أشعل تسجيل نُسب إلى شخصية درزية، يتضمن إساءة الى النبي محمد، دعوات لـ “الجهاد” ضد الدروز. ليتبين لاحقاً أن التسجيل مفبرك، فتدخلت الحكومة وعملت على التهدئة.
لاحقاً، تسببت حوادث خطف في إشعال فتيل الاقتتال مجدداً. وهي حوادث كان يمكن تداركها محلياً، كما جرت العادة في السويداء التي واجه فيها البدو والدروز خلافات مماثلة عبر تسويات محلية. لكن، بدلاً من ذلك، اختارت الدولة فرض هيبتها في التوقيت الخاطئ، فأرسلت قوات الأمن ـ المتهمة بعض تشكيلاتها بارتكاب مجازر في الساحل ـ لتقتحم المدينة، وترتكب انتهاكات واسعة شملت إعدامات ميدانية وحرقاً وسرقة للمنازل.
رداً على ذلك، شنّت فصائل درزية هجمات انتقامية على أحياء البدو، ما استنهض عشائر سوريا. وسرعان ما ارتفع عدد المقاتلين المتجهين نحو السويداء إلى نحو 50 ألفاً، مهددين بارتكاب مجزرة أوسع.
إسرائيل، التي تراقب المشهد، واصلت مفاوضاتها مع الحكومة، وأبقت على قنوات اتصال مفتوحة مع الشيخ الهجري عبر الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل.
وسط هذا الجنون، ارتفعت أصوات درزية تطالب بحماية دولية، وهو مطلب لم يلقَ أي تجاوب، فشعر كثيرون في الطائفة بأنهم تُركوا وحدهم. وهناك كان اللجوء إلى ما بات يُعرف في سوريا بـ “الأزرق” (إسرائيل). تدخلت الأخيرة مستفيدة من التوتر، لتقدّم نفسها كمنقذ للدروز، وأوقفت بالقوة تقدم القوات المهاجمة من حكومة دمشق والعشائر. وكانت المعادلة المؤسفة: حماية إسرائيلية للسوري من السوري.

لماذا فضّل البعض إسرائيل على الحكومة؟
تدخّل إسرائيل الأخير لمنع اقتحام مقاتلي العشائر السويداء، أعاد رسم المشهد السياسي في المدينة، وطرح تساؤلات حرجة حول مفهومي الحماية والانتماء. لم يكن المدنيون في السويداء يتصوّرون يوماً أن يأتيهم العون من طرف طالما اعتُبر عدواً، لكن اللحظة كانت مصيرية. أمام غياب الدولة وصمتها عن العنف، لجأ البعض إلى من كان مستعداً للتدخل، على رغم أن كثيرين لم يكونوا ليتخيّلوا هذا الخيار قبل أشهر.
اليوم، يُطلب من أبناء السويداء ـ صراحة أو ضِمناً ـ إدانة إسرائيل وتقديم ما يشبه “صك الوطنية”، فيما لا يزالون يعيشون تداعيات العنف والخوف والحصار. يرى البعض أن هذه الإدانة رمزية لا تكلّف شيئاً، لكنّها في نظر آخرين تتجاهل تعقيد اللحظة وواقع المدينة التي وجدت نفسها بين سلطة تتهمها بالتقصير والخيانة والانفصال، وقوة خارجية تحرّكت حين كانت الأبواب الأخرى موصدة.
هذا الشعور بالخذلان لا يرتبط فقط بالدولة، بل يمتد إلى الصمت العربي الواسع الذي لم يُترجم بأي موقف تضامني مع المدنيين، ما عمّق الإحساس بالعزلة، وطرح تساؤلات عن معنى الانتماء وجدواه في لحظات التهديد الوجودي.
من جهتها، إسرائيل ليست فاعلاً نزيهاً، والتعويل عليها وهم آني، فهي تتحرك وفق مصالحها. لكنها، في نظر العائلات الخائفة، كانت الطرف الوحيد الذي تدخّل عملياً، وهو ما جعل سكان المدينة يشعرون أنهم عالقون بين خيارات قاسية، فرضتها الوقائع أكثر مما اختاروها.
في هذا السياق، يتنامى شعور “الانفصال النفسي” عن الدولة ليس كموقف سياسي، بل كردّ فعل على ما يراه البعض تخلياً، وتحريضاً، ووصماً جماعياً للدروز. وهو ما يعمّق الهوة، ويُنتج جرحاً لا تداويه شعارات الوحدة الوطنية.
وفي ظل تصاعد خطاب الكراهية على وسائل التواصل، والدعوات إلى نبذ أبناء السويداء أو حرمانهم من المساعدات، بل وصول بعضها إلى حدّ المطالبة بتسميم مياه الشرب ـ في مشهد يعيد إلى الأذهان أسوأ مراحل الحرب الأهلية في لبنان ـ يشعر كثر من الأهالي أنهم محاصرون، لا جغرافياً فحسب، بل رمزياً أيضاً.
من هنا، لا يمكن فصل ما يحدث في السويداء عن مسؤولية الدولة، كما لا يمكن تبرير أي شكل من أشكال التحريض الطائفي أو الانتقام، بما في ذلك رفع بعض الأطراف العلم الإسرائيلي، أو الممارسات الانتقامية ضد مجموعات من البدو، أو الدفع باتجاه تهجير قسري لعائلات من عشائرهم، أجبروا على مغادرة بيوتهم وقراهم كجزء من التسوية بين الحكومة والفصائل الدرزية.
اللافت أن كل هذه التطورات تحصل في غياب أي حوار وطني جاد، فيما تتصدر الأطراف الخارجية المشهد وتدير التفاعلات على الأرض. إذاً، الأزمة اليوم، في جوهرها، ليست مع إسرائيل وحدها، ولا بين الدروز والسنّة فحسب، بل بين سرديات الخوف الوجودي وانهيار الثقة في دولة هشّة.
إسرائيل التي لا تحمي سوى نفسها
لطالما بررت إسرائيل تدخلها في سوريا بحجة “حماية أمنها”، مركّزة على منع تمدد إيران وحزب الله نحو الجولان. لكن تدخلها لم يقتصر على ذلك، بل شمل استثمار الانقسام الطائفي وتعزيز نفوذها عبر دعم فصائل معارضة قرب الحدود، من خلال تمويل، ومعالجة جرحى، وتقديم مساعدات.
وبحسب تحقيق نشرته صحيفة وول ستريت جورنال عام 2017، أشرفت وحدة إسرائيلية خاصة على دعم فصائل أبرزها “فرسان الجولان”، ضمن ما عُرف بسياسة “الجيرة الحسنة”، بهدف إنشاء منطقة عازلة غير رسمية داخل سوريا.
اليوم، تحاول إسرائيل تكرار التجربة نفسها في جنوب سوريا، في ما يشبه “منطقة عازلة جديدة” ولكن بواجهة مختلفة. فالدعم الذي يُقدَّم حالياً، وإن لم يُعلن رسمياً، يحمل ملامح مشابهة لما حصل في الجولان، وربما يتجاوزها من حيث مستوى التنسيق والتأثير.
في الجوهر، لم تتغير سياسات إسرائيل التي تجيد التلاعب بالتناقضات واستثمارها لصالحها، بل يُعاد إنتاجها ضمن سياق مختلف، مع جمهور مستهدف جديد داخل سوريا. الفارق الوحيد أن هذه المرة تستغل إسرائيل الشرخ الطائفي المتصاعد، ومخاوف الدروز الوجودية، لتقدّم نفسها كقوة “ضامنة”.
لماذا نجحت إسرائيل؟
حتى الآن، لم تقدّم الدولة السورية أي بادرة حسن نية تجاه السويداء بالمعنى الحقيقي: لم يعتذر مسؤول، ولم يُقدَّم واجب عزاء. على العكس، ما زالت المدينة محاصرة، وتتباهى شخصيات محسوبة على النظام بذلك.
وهنا يطرح سؤال نفسه: هل غياب حسن النية عجز أم خيار مدروس، يناسب تماماً السيناريو الذي يرغبون في استمراره؟
على الجهة الأخرى، هل لا بدّ من تشكيل مجموعة مدنية تمثّل صوت المدينة خارج سلطة المشايخ؟ قد يكون هذا الكلام متأخراً، بعدما ساهمت الدولة في تجسيد أكبر مخاوف الناس (المجزرة!)، وتركتهم بلا خيار، مؤكدة أن سلاحهم هو من يحميهم، لا الدولة.
هناك واقع مفروض في سوريا، يتمثل في تصدّر القيادات الدينية المشهد السياسي، على رغم افتقار معظمها إلى الخبرة السياسية. وينطبق الأمر ذاته على الدولة، التي ما زالت تتعامل بعقلية الميليشيات لا بعقلية الدولة.
وهكذا، ساهمت الحكومة السورية وإعلامها، بوعي أو عن جهل، في صناعة صورة مضخّمة للهجري، وروّجوا لحضوره وتصريحاته بهدف شيطنة مدينة بكاملها. وبعيداً عن مصالحه الخاصة، في ظل كل ما حصل من رعب بات من السهل الترويج لمقولات من نوع: لو أن الهجري سلّم السلاح، لكانت المجزرة أوسع. ولولا تدخل إسرائيل، لأُبيدت المدينة بكاملها.
هذا الواقع يضع كثيرين في السويداء في خانة مربكة: فإسرائيل دولة إبادة تحتل جزءاً من سوريا وتُعتبر “عدواً”، لكن في المقابل، من هاجم المدنيين هم أيضاً أعداء. وفي لحظة القتل والاستباحة، تصبح الاستعانة بـ”العدو” خياراً يصعب عقلنته، إذ تتفوق غريزة البقاء على كل ما عداها.
لا شك في أن رفع البعض في السويداء العلم الإسرائيلي أثار جدلاً واسعاً، باعتباره خطوة مثيرة للانقسام، فهو العلم نفسه الذي يحاصر الغزيين منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والعلم نفسه الذي ارتكب جرائم إبادة وتجويع لم تتوقف حتى الآن. ومع ذلك، لا يمكن اعتباره تبنياً من المدينة لهذا العلم، بل سلوكاً فردياً لبعض الأشخاص أو الجماعات، يعكس تعقيد المرحلة الراهنة وعجز الناس في المدينة.
لنصل إلى المعضلة الأخلاقية الأكبر: العدو الذي يحاصر الغزيين اليوم، يقف في وجه الدولة التي تحاصر مدينة سورية!
وهكذا، حين يُقتل الناس تحت راية بلادهم، قد يجدون أنفسهم منساقين نحو الرايات الطائفية أو الاحتماء بقوى خارجية. فغياب الخيارات الآمنة والتمثيل الحقيقي يدفع البعض إلى اتخاذ مواقف لم تكن مطروحة في السابق، مدفوعين بالخوف أكثر من القناعة الأيديولوجية.
هل ثمانية أشهر من المفاوضات كانت كافية؟
ما يحصل في الجنوب السوري يُصنَّف بامتياز كحرب بالوكالة، إذ تشير المعطيات إلى أن إسرائيل تستفيد من تحالفات مع بعض المجموعات الدرزية في السويداء، على المستويين السياسي والعسكري، بهدف التأثير في الواقع الأمني للمنطقة مستغلة الخوف الطائفي. ولا يمكن إغفال فشل الدولة في التوصل إلى اتفاق مع القوى المحلية، بوصفه جزءاً من المشهد العام الذي قد يخدم مصالح أطراف خارجية.
قد يُقال إن الحكومة فاوضت الأطراف في السويداء لثمانية أشهر من دون الوصول إلى نتيجة، في محاولة لإظهار أنها منحت ما يكفي من الفرص، بينما لم تُبدِ القوى الفاعلة في السويداء تجاوباً جدياً. لكن يبقى السؤال المشروع: هل كانت هذه مفاوضات حقيقية فعلاً؟ خصوصاً في ظل نهج الدولة القائم على تهميش معظم المكوّنات الأقلّوية وإقصائها من مسارات صنع القرار، الأمر الذي يُضعف صدقية أي حوار أو تفاوض يُطرح في هذا السياق.
من يسعى إلى بناء دولة حقيقية يدرك أن السياسة تتطلب نفساً طويلاً، وأنها قد تكون بطيئة ومملة في كثير من الأحيان. فكلما ازداد الملف تعقيداً وتعددت الأطراف المتدخلة فيه، طال أمد الوصول إلى حل. وهذا ينطبق تماماً على ملف السويداء، حيث تتداخل أطراف دولية مثل إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة، إلى جانب أطراف محلية كالعشائر والبدو والحكومة السورية نفسها.
في تجارب أخرى، استغرقت مفاوضات السلام في كولومبيا أربع سنوات متواصلة، بينما امتد المسار التفاوضي في السودان على مدار عقدين كاملين. فكيف يمكن القول إن ثمانية أشهر كانت كافية لحل أزمة مركّبة كأزمة السويداء؟
لا أحد يرغب في صراع دموي أو مفاوضات مفتوحة بلا أفق، لكن كان من الممكن الإبقاء على قنوات التفاوض مفتوحة، وتفادي الانزلاق نحو المواجهة المسلحة. لقد كانت هناك فرصة حقيقية لتجنيب المدنيين هذا المسار، لو مُنحت السياسة ما تستحقه من وقت وحكمة ومسؤولية من جميع الأطراف.








